الأسبوع الأخير : العدالة الاجتماعية في الإسلام(3)
1 يونيو، 2016
إسلاميات, تربوى
508 زيارة
الافتتاحية: سورة النساء الآية 135
قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء:135).
نزلت هذه الآية عندما “اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلّا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير وأنزل الآية. ذكره السدي”(الفخرالرازي، مفاتح الغيب).. يقول الإمام النيسابوري رحمه الله: “بيّن سبحانه أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في اختيار العدل محترزين عن ارتكاب الميل شُهَداءَ لِلَّهِ لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو كانت تلك الشهادة وبالا على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين، وإِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تكتموا الشهادة طلبا لرضا الغني أو ترحما على الفقير فَاللَّهُ أَوْلى بأمورهما ومصالحهما”(تفسير النيسابوري،بتصرف).
والآية تأمر المؤمنين بالعدل المطلق من كل قيد، العدل الذي يتحرر فيه الإنسان في مجال الحكم والشهادة من الهوي والغرض والمصلحة، ومن حب الذات والأنا، ومن العصبية للقرابة والرحم، ومن مشاعر الرغبة والرهبة، ومن رواسب الماضي، ومن تطلعات المستقبل. فيقيم حكمه وشهادته علي الحق والصدق ولو لحقه الأذي وناله الضر. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: “يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، أَيْ بِالْعَدْلِ، فَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا وَلَا تَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصْرِفَهُمْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ مُتَسَاعِدِينَ مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ كَمَا قَالَ ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: لِيَكُنْ أَدَاؤُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ صَحِيحَةً عَادِلَةً حَقًّا، خَالِيَةً مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أَيْ: اشْهَدِ الْحَقَّ وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ وَإِذَا سُئِلت عَنِ الْأَمْرِ فَقُلِ الْحَقَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَضرة عَلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَضِيقُ عَلَيْهِ.و قَوْلُهُ: ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ﴾ أَيْ: وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ، فَلَا تُراعهم فِيهَا، بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنَّ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْحَقَّ حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ أَيْ: لَا تَرْعَاهُ لِغِنَاهِ، وَلَا تُشْفِقْ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ، اللَّهُ يَتَوَلَّاهُمَا، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِهِمَا مِنْكَ، وَأَعْلَمُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمَا. وَقَوْلُهُ ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ أَيْ: فَلَا يَحْمِلْنَّكُمُ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةُ وبغْضَة النَّاسِ إِلَيْكُمْ، عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِكُمْ وَشُؤُونِكُمْ، بَلِ الْزَمُوا الْعَدْلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (الْمَائِدَةِ: 8) وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَهُمْ وَزَرْعَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يُرْشُوه لِيَرْفُقَ بِهِمْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إليَّ، وَلْأَنْتَمْ أَبْغَضُ إليَّ مِنْ أَعْدَادِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَمَا يَحْمِلُنِي حُبي إِيَّاهُ وَبُغْضِي لَكُمْ عَلَى أَلَّا أَعْدِلَ فِيكُمْ. فَقَالُوا: »بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ« وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: ﴿تَلْوُوا﴾ أَيْ: تُحَرِّفُوا الشَّهَادَةَ وَتُغَيِّرُوهَا، »وَاللَّيُّ« هُوَ: التَّحْرِيفُ وَتَعَمُّدُ الْكَذِبِ، وَ »الْإِعْرَاضُ« هُوَ: كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ وَتَرْكُهَا”(تفسير القرآن العظيم).
وتحقيق العدل المطلق أمر شاق يحتاج إلي تربية ذاتية و فردية وجماعية مستمرة. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “يبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها، في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة، متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته. ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة، التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو. وفي النفس البشرية ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضاً. تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني، تجاه المودة وتجاه الشنآن. ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله. إنها أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين. ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء. ويتساوى الأغنياء والفقراء. ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ﴾ حسبة لله. وتعاملا مباشراً معه. لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم. ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة. ولا تعاملاً مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية. ولكن شهادة لله، وتعاملاً مع الله. وتجرداً من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار﴿وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾”(في ظلال القرآن، بتصرف).
والقرآن الكريم يعلي من أهمية التربية الذاتية في غرس قيمة العدل. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها، تجاه ذاتها أولاً، وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً. وهي محاولة أشق كثيراً من نطقها باللسان، ومن إدراك معناها بالعقل. ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية حين يكون المشهود له أو عليه فقيراً، تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه. أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية. وحين يكون المشهود له أو عليه غنياً تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته. أو قد يثير غناه وتبطره النفس فتشهد ضده، وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع. والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات، وحب الوالدين والأقربين.﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا﴾. والهوى صنوف شتى : فحب الذات هوى. وحب الأهل والأقربين هوى، والعطف على الفقير في موطن الشهادة والحكم هوى، ومجاملة الغني هوى. ومضارته هوى، والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن في موضع الشهادة والحكم هوى، وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين في موطن الشهادة والحكم هوى، وأهواء شتى كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.
دروس مستفادة من الآيات:
• الإسلام يأمر بالعدل مع جميع الناس: المؤمن والكافر، القريب والبعيد، الغني والفقير، القوي والضعيف، الصديق والعدو.
• تحرير النفس في موطن الحكم والشهادة من كل المشاعر التي تميل به عن العدل يحتاج إلي مجاهدة وتربية ذاتية مستمرة.
• …………………………………………………..أذكر دروساً أخري.
من وسائل تحقيق الجانب الآخر(غير الاقتصادى) من العدالة الاجتماعية في الإسلام
أولا : محاربة كل أشكال التمييز : يحارب الإسلام التمييز بكل أشكاله ومنها:
• التمييز الديني: فالإسلام يأمر بالعدل مع الناس جميعاً بغض النظر عن عقيدتهم، أو موقفهم من عقيدة الإسلام محايداً كان أو معادياً. قال تعالي: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة: من الآية2) وقال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(لمائدة:8). والإسلام يمنع العدوان علي دم المسلم وغير المسلم، ويقتص للمقتول مسلماً كان أو غير مسلم من قاتله أياً كانت عقيدته، فالإسلام لا يفرق بين دم ودم؛ فالناس في حق الحياة سواء. كما يحرم الإسلام العدوان علي مال الإنسان مهما كانت ديانته بالسرقة أو الغصب أو الغش أو غير ذلك من الوسائل؛ فتقطع يد السارق ولو كان المسروق منه غير مسلم. ويرد المغصوب علي صاحبه أياً كانت عقيدته، ويعاقب الغاصب كائناً من كان. وهذه قمة العدالة الاجتماعية؛ إذ يعيش غير المسلم في المجتمع الإسلامي آمناً علي نفسه وماله وعرضه تحرسه شريعة الإسلام وتمنع العدوان عليه بأي صورة من الصور شأنه شأن المسلمين أنفسهم.
• التمييز اللوني: فالإسلام لا يفرق بين البشرة السمراء والبيضاء، واللون لا يضفي علي صاحبه قداسة، ولا يجلب عليه اللعنة؛ فليس للون قيمة في ذاته. فكم من أبيض البشرة أسود القلب، وكم من أسود البشرة أبيض القلب. قال صلي الله عليه وسلم: » ويقول عليه الصلاة والسلام«إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن»(رواه أبو داود وحسنه الألباني) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»(رواه مسلم ) وقد كان بلال بن رباح رضي الله عنه أسود البشرة و لم تمنعه بشرته السوداء أن يكون مؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه،وعندما عير أبو ذر الغفاري ذو البشرة البيضاء بلال بن رباح بسواد بشرته قائلاً له« يا ابن السوداء،غضب رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال طف الصاع يا أبا ذر، ليس لابن البيضاء علي ابن السوداء فضل إلا بالتقوي» وفي خطبة الوداع يقول صلي الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ “( الجامع الصحيح للسنن والمسانيد ). والإسلام لا يعطي حقوقاً للأبيض يحرم منها الأسود أو العكس كما حدث في بعض الحضارات قديماً وكما يحدث اليوم في بعض الاماكن في ظل الحضارة المادية المعاصرة؛ فتوجد مدارس ومستشفيات ووسائل مواصلات وأماكن معينة يحرم السود من استخدامها بسبب لون بشرتهم.
• التمييز العرقي: الإسلام لا يميز بين الناس علي أساس أصولهم العرقية؛ فليس للعرب مكانة خاصة في الإسلام بسبب عرقهم؛ فمن أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم أبو بكر القرشي، وبلال الحبشي، وعمار الفارسي، وصهيب الرومي، والعرق لم يقف حائلاً أبداً في ظل الإسلام دون الوصول إلي أعلي المناصب، بل وسدة الحكم، بل ومقام الخلافة، فالدولة الاموية والعباسية كانت قيادتها للعرب، والخلافة العثمانية كانت قيادتها للأتراك؛ وفي ظل الخلافة العباسية حكم السلاجقة الأتراك، والمرابطون الأمازيغ، والمماليك الذين لا يعرف لهم نسب. ولا تعرف حضارة في التاريخ الإنساني حدث فيها هذا إلا الحضارة الإسلامية.
• التمييز الجنسي: فالإسلام يسوي بين الرجل والمرأة في أصل الكرامة الإنسانية، وفي التكاليف الشرعية، وفي الحساب والجزاء. قال تعالي: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل:97) وقال تعالي: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (غافر:40) . والإسلام أنصف المرأة وجعل لها ذمتها المالية المستقلة عن أبيها وزوجها وفرض لها نصيباً في الميرات وكانت من قبل تراثاً يورث لا تملك حق التصرف حتي في نفسها. والعبرة في الإسلام بالصلاح والتقوي لا بالذكورة والأنوثة؛ فكلاهما من خلق الله، وليس للإنسان دخل في اختيار نوعه، فالمرأة الصالحة خير من ملء الأرض من الرجال الفاسدين المفسدين.”لقد أباح الإسلام للمرأة أن تملك كل أصناف المال من دراهم وضياع ودور وعقار وغير ذلك، أباح لها أن تملك ذلك بكل أسباب التملك، مستقلة في هذا التملك عن غيرها من زوج وغيره. وأباح لها أن تنمي هذه الأموال بكل وسائل التنمية المباحة ، بأن تباشر هي ذلك إذا اضطرت أو توكل من يقوم به” (شبهات وردود، المكتبة الشاملة ).
• التمييز اللغوي: رغم أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية إلا أن الإسلام لم يشرع أي قانون يميز بين أصحاب اللسان العربي وبين الأعاجم الذين يتحدثون أي لغة أخري؛ (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ) فليس في الإسلام حقوق مرتبطة باللغة يحرم منها غير المتحدثين بالعربية، وكم من دول حكمت باسم الإسلام وهى تتحدث لغتها الأصلية كالأمازيغية والتركية وغيرهما، وإن كانت رغبةالمسلمين في تعلم اللغة العربية والتحدث بها كبيرة رغبة في فهم القرآن وعلومه.”ولكن يجب أن نتفطَّن لأمر مهم جدًّا وهو أنَّ العربية والعرب ما كانوا شيئًا يذكر لولا الإسلام, فالعربية هي إحدى اللغات في هذه الأرض, والعرب هم أحد الأجناس من هذه الأمم, فلا مزيَّة لهم إلّا بالدين الإسلامي…وإذا كانت كلمة الإسلام تجمعهم سيصبحون قلبًا واحدًا وهدفًا واحدًا, ويصبح العربي وغير العربي المسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى, وقد كان المسلمون في جهادهم يدعون الناس إلى الدخول في الإسلام لا إلى الانضمام إلى العربية أو إلى شبه الجزيرة العربية، والإسلام لا يقف في طريق الشخص إذا انتسب لقومه أو لوطنه أو أهله, بل إنه يشجِّع هذا المسلك ويحبِّذه؛ إذ كان على أساس التواصل وصلة الرحم, وأمَّا حينما يصل التعصُّب للقومية إلى أن يقدِّم الشخص ولاءه ومحبته للآخر لأنه من قومه, بينما يبتعد عن الآخر من غير قومه حتى وإن كان صالحًا تقيًّا, فهذا لا يعترف به الإسلام”(غالب بن على عواجى، المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها فى المجتمعات وموقف الإسلام منها، بتصرف).
• التمييز الطبقي: يرفض الإسلام أن تكون طبقة من طبقات المجتمع لها حقوق خاصة لا تتمتع بها بقية الطبقات، بل إن الإسلام لا يعرف نظام الطبقات أصلاً، فالناس بالنسبة للحقوق العامة والحريات والواجبات وأصل الكرامة الإنسانية طبقة واحدة، ومن القواعد المعروفة في علم أصول الفقه: “المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم وهم يد علي من سواهم” فلا توجد وظائف في الإسلام حكر علي طبقة معينة من الناس يحرم منها غيرهم بأي ذريعة من الذرائع، ولا توجد طبقة أو قبيلة لها حق الاستئثار بثروات المجتمع دون غيرها، و لا توجد طبقة لها قداسة أو مكانة خاصة. فالناس جميعاً متساوون في أصل الكرامة الإنسانية ويتمايزون بعد ذلك علي قدر نفعهم للمجتمع. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ، وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَهُ»(أمثال الحديث لأبى الشيخ الأصبهانى).
ثانياً: تحقيق المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات:
• حق الحياة: وهو من الحقوق الأساسية التي يضمنها الإسلام للناس جميعاً؛ فالإنسان بنيان الله، وهو سبحانه واهب الحياة، وليس لإنسان كائناً من كان أدني حق في أن يسلب حياة إنسان مثله إلا ما كان قصاصاً عادلاً بطريقة شرعية صيحيحة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة:179) وليس في الإسلام إنسان أولي بحماية هذا الحق له من غيره؛ فليست هناك حياة محصنة وأخري مهدرة، وليس هناك دم غال وآخر رخيص. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لَا أَدْرِي لِعَلِّي لَا أَلْقَاكُمُ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ, يَا أَيُّهَا النَّاسُ, دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ»” (الشريعة للآجرى). وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ»(سنن الترمذى، شاكر) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ لَعَنَتْهُ المَلَائِكَةُ»: وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْه(المرجع السابق).
• حقوق الملكية: فلكل إنسان الحق في أن يمتلك ما شاء بغير حدود ما دام ملتزماً بحدود الشرع في موارد الكسب ومصارفه، وليس لأحد أن يطالبه بشئ إلا ما يقرره الشرع من زكاة أو يفرضه القانون من ضريبة لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع، ويترك له باب التطوع بالصدقة وأعمال الخير والبر مفتوحاً يدخله إذا شاء راغباً بلا إكراه بالقدر الذي يرتضيه. “فالإسلام يحترم الملكية بقسميها العامة والفردية وقد نظَّمها أحسن تنظيم، ولم يوجب أن تكون الأموال في يد الدولة فقط, ولا في يد فرد أو طائفة من طوائف المجتمع, وذلك بخلاف النظام الماركسي الذي يجعل الفرد قطعة لا أهمية لها في جانب الجماعة, وبخلاف النظام الرأسمالي الذي يجعل الفرد حرًّا طليقًا ولو على حساب مصالح الجماعة, كما أن الإسلام لا يجيز للدولة أن تأخذ مال أحد إلّا بوجه شرعي, فقد ضمن حرية الملكية الفردية ونظَّمها, وجعل مسئولية الإنتاج قائمة على الأفراد وعلى الدولة التي تمثل المجتمع على حد سواء. كما أنَّ الملكية الفردية في الإسلام لها ضوابط وتقوم على نظام خاص بعيدًا عن جشع الرأسمالية وظلم الشيوعية, لأن الإسلام يتماشى مع الفطرة التي فطر الله عليها الناس, ولهذا فهو لم يتجاهل غريزة حب التملك عند الإنسان, بل أقرَّها ونظَّمها في حدودها المشروعة التي ترتكز على القاعدة الشرعية “لا ضرر ولا ضرار”, فإذا لم يكن في التملك ضرر على الغير فله أن يملك ما يشاء من المال”(غالب بن علي خفاجي، مرجع سابق، بتصرف).
• حق التعليم: يكفل الإسلام حق التعليم للجميع صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، مسلمين وغير مسلمين، بل يري أن قيام المعلم بالتعليم واجب شرعي( راجع مثلاً آداب المعلم والتعلم في إحياء علوم الدين لأبى حامد الغزالى رحمه الله) ولايعرف التاريخ الإنساني أمة قامت بتعليم الأجانب المخالفين لها في العقيدة واللغة والتاريخ بالمجان إلا أمة الإسلام؛ وقد كانت قرطبة وأشبيلية وغيرهما من حواضر الإسلام معابر العلم والنور والحضارة إلي أوروبا، وشمل ذلك كل علوم الكون والحياة التى برع فيها المسلمون في ذلك الوقت كالطب و الهندسة والزراعة والري والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها. والمعلم في الإسلام يقوم بواجب التعليم حسبة لله تعالي وقربة إليه، وقد كان يؤدي عمله في صدر الإسلام بالمجان؛ فلما تعقدت الحياة أجاز متأخروا الحنابلة أخذ المعلم أجرة علي التعليم مقابل حبس وقته علي هذه المهمة التي لا يستغني عنها المجتمع ولا تتحقق مصالحه إلا بها مع التأكيد علي أن الأصل في الإسلام هو التعليم حسبة لله(راجع أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني).
• حق العمل: لكل إنسان فى نظر الإسلام الحق أن يزاول العمل الذي يحبه وتؤهله له إمكاناته وقدراته وخبراته بغض النظر عن عقيدته وجنسه ولونه، وفى الحديث: “من استعمل علي قوم أحداً وفيهم من هو أرضي لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين” (ضعفه الألباني،ولكن معناه صحيح كما دلت عليه قواعد الشرع، وأصوله العامة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ” .. يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل ..” ، وذكر الحديث السابق) فحرمان المجتمع من الكفء القوي الأمين لاعتبارات عنصرية أو سياسية أو غير ذلك يعد خيانة لله ورسوله قبل أن يكون خيانة للمجتمع وإهداراً لمصالحه.
تطبيقات عملية
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين كتاب للأستاذ ابي الحسن الندوى رحمه الله، بعد مدارسة دروس العدالة الاجتماعية في الاسلام حدد بعض جوانب هذه الخسارة.