الأسبوع الثاني: من أسباب صعود الأمم والجماعات وهبوطها (2)
10 مايو، 2016
إسلاميات, تربوى
779 زيارة
الافتتاحية: الآيات 28-33من سورة غافر
قال تعالي: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ِ(غافر:28-33).
تتناول الآيات موقف مؤمن آل فرعون من استبداد فرعون وتآمر الملأ علي موسي عليه السلام دون ذنب إلا الدعوة إلي الله تعالي.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه. وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك. إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾ِ .. فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب، واقتناع نفس، تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة. ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة: ﴿رَبِّيَ اللَّهُ﴾ِ .. يقولها ومعه حجته، وفي يده برهانه: ﴿وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ِ .. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى- عليه السّلام- ورأوها، وهم- فيما بينهم وبعيدا عن الجماهير- يصعب أن يماروا فيها! ثم يفرض لهم أسوأ الفروض ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية تمشيا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: ﴿وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ِ.. وهو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته. وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال! وهناك الاحتمال الآخر، وهو أن يكون صادقا. فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه: ﴿وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ِ.. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام.
ثم يهددهم من طرف خفي، وهو يقول كلاما ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ِ .. فإذا كان موسى كاذباً فإن الله لا يهديه ولا يوفقه، فدعوه له يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون، فيصيبكم هذا المآل! وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب، يهجم عليهم مخوفا بعقاب الله، محذرا من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هم فيه من ملك وسلطان، مذكرا إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران: ﴿يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا﴾ِ. إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من أن بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض فهم أحق الناس بأن يحذروه، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه، وأن يبيتوا منه على وجل، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا﴾ِ ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص. وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف.
هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتا على سلطانه، ونقصا من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان: ﴿قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ِ. إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا، وأعتقده نافعا. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟! ولكن الرجل المؤمن يجد من إيمانه غير هذا ويجد أن عليه واجبا أن يحذر وينصح ويبدي من الرأي ما يراه. ويرى من الواجب عليه أن يقف إلى جوار الحق الذي يعتقده كائنا ما كان رأي الطغاة. ثم هو يطرق قلوبهم بإيقاع آخر لعلها تحس وتستيقظ وترتعش وتلين. يطرق قلوبهم بلفتها على مصارع الأحزاب قبلهم. وهي شاهدة ببأس الله في أخذ المكذبين والطغاة: ﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ِ. ولكل حزب كان يوم. ولكن الرجل المؤمن يجمعها في يوم واحد: ﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ﴾ِ فهو اليوم الذي يتجلى فيه بأس الله.. وهو يوم واحد في طبيعته على تفرق الأحزاب.. ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ِ إنما يأخذهم بذنوبهم، ويصلح من حولهم ومن بعدهم بأخذهم بأيام الله.
ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله. يوم القيامة. يوم التنادي: ﴿وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ﴾ِ. وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف. وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار. وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.. فالتنادي واقع في صور شتى. وتسميته ﴿يَوْمَ التَّنادِ﴾ِ تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ﴾ِ. وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار. ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار. وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان! ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ﴾ِ. ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: ﴿وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ِ. وتلميحا بأن الهدى هدى الله. وأن من أضله الله فلا هادي له. والله يعلم من حال الناس وحقيقتهم من يستحق الهدى ومن يستحق الضلال”(في ظلال القرآن).
دروس مستفادة من الآيات:
• الطاغية المستبد لا يري إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته، ويري أن مخالفته من أكبر الجرائم التي تستحق العقوبة بل والقتل.
• القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهما كانت بيئة القمع والاستبداد مستحكمة.
• …………………………………………………أذكر دروساً أخري.
من أسباب صعود الأمم والجماعات وهبوطها
ثالثا : الحرية مقابل الاستبداد:
يربط ابن خلدون بين الترف والاستبداد ويجعلهما معاً من أبرز أسباب تحلل الدولة و زوال الملك والسلطان فيقول: “اعلم أنّ مبنى الملك على أساسين لا بدّ منهما فالأوّل الشّوكة والعصبيّة وهو المعبّر عنه بالجند، والثّاني المال الّذي هو قوام ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدّولة طرقها في هذين الأساسين؛ فإذا سقطت في التّرف وجدع أنوف أهل العصبيّة (الاستبداد)، فيحيط بهم هادمان وهما التّرف والقهر”(تاريخ ابن خلدون، بتصرف). وقد جعل عنوان الفصل الثالث عشر من تاريخه: “في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم”(تاريخ ابن خلدون) أي أن الاستبداد والترف مؤذنان بشيخوخة الدولة وضعفها وتحللها. ويؤكد الكواكبي الرابطة بين الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والفساد المالي والأخلاقي فيقول: “الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال”(طبائع الاستبداد).
والاستبداد السياسي يشل القدرة علي القيام بأعباء الدولة وأمانة الحكم إذ ينشغل الساسة والحكام حينئذ بالخصومة السياسية فتضيع مصالح العباد وتضعف الدولة. وهذا ما حدث في الدولة الرومانية فأدي إلي سقوطها بعد مجد طويل وهكذا في كل دولة كتب عليها الزوال. يقول ويل ديورانت: “أما الأسباب السياسية التي أدت إلى انهيار الإمبراطوريّة فترجع كلها إلى أصل واحد – هو أن الاستبداد المتزايد قضى على شعور الفرد بحقوقه المدنية، وأنضب معيّن قدرته على القيام بأعباء الحكم. ولما عجز الروماني عن التعبير عن إرادته السياسية إلا بالعنف، فقد من أجل ذلك اهتمامه بشئون الحكم، وانهمك في أعماله”(ويل ديورانت، قصة الحضارة) أي أن الاستبداد يؤدي إلي انصراف الناس عن ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية والمشاركة في شئون الحكم التي تدار بالاستبداد، فيترتب علي ذلك الضعف والجمود والانحطاط.
وقد جاء الإسلام بالشوري وأوجبها حماية للناس من بلاء الحكم الفردي ومخازيه. قال تعالي: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159) ويصف الله تعالي المؤمنين بقوله سبحانه: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(الشوري:38) وإعمال الشوي واحترامها والرضي بنتائجها يحصن الجماعة والأمة من الاستبداد ومن ثم السقوط، وإهمال الشوري والانحراف في ممارستها يؤدي إلي ترسيخ الفردية والاستبداد فيؤذن بالضعف والجمود والتكلس الذي يفضي إلي التحلل والزوال. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “الشورى تقى الأمة سيئات شتى. منها أن المستبدين يضعون أنفسهم فوق المسئولية، إنهم يخطئون الخطأ الرهيب، فإذا افتضحوا كان غيرهم غالبا كبش الفداء، ومن ميزات الشورى أنها ترد الحاكم إلى حجمه الطبيعي كلما حاول الانتفاخ والتطاول، وقد ملأ الحكم الفردي أغلب الأقطار قديما وكافحت شعوب عظيمة حتى نجت منه. وإن دفعت الثمن غاليا حتى استردت حريتها وكسرت قيودها”(الإسلام والاستبداد السياسي، بتصرف).
ويقول الشيخ سلمان العودة: “حين دب إلى الدولة العثمانية الاستبداد، وطغى خلفاؤها المتأخرون، ثارت عليهم الثورات في كل مكان، فسقطت دولتهم لأسباب كثيرة من أهمها: إهمال الشورى، وضياع الحياة الدستورية الصحيحة في بلادهم. وقل مثل ذلك بالنسبة للدول المعاصرة، سقوط الشيوعية في عدد من الدول التي حكمتها عشرات السنين، فسقطت هذه الدول التي هي مدججة بالحديد والنار والاستخبارات والقوة الأمنية، ومع ذلك سقطت أمام تيارات الجماهير التي تصرخ وتنادي بحريتها في عدد من البلاد، بل أصبحت تتهاوى كما تتهاوى لَبِنات البناء المتهالك القديم إذا تعرض لإعصار شديد أو لضربة قاضية !! فسقوط الشيوعية منبئ عن أهمية الشورى، ومعرفة قيمة الفرد، وأن كل دولة تقوم على الحديد والنار، وتبطش بالناس، فإنها آيلةٌ للزوال والفناء؛ فالقوة لا بقاء لها. وفي مقابل ذلك، فإننا نجد الأنظمة الغربية الآن في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، إذا أردنا أن نكون واقعيين وصرحاء؛ فإن هذه الأنظمة أكثر استقراراً من الأنظمة الشيوعية بلا شك، وأكثر استقراراً من الأنظمة العربية والإسلامية المعاصرة كلها. لأنها حكومات قامت على الحكم الديمقراطي، لا نقول ذلك مدحا لهم ولكننا نقر واقعا يعيشونه في بلادهم”.(أسباب سقوط الدول، بتصرف).
والاستبداد يطمس المواهب ويؤخر الكفايات ويقدم أهل الثقة والمحسوبية فتنتشر أخلاق الضعة والذلة والمسكنة بين العامة وأخلاق الكبر والبطر والظلم بين الحاشية، والخلاصة أن الاستبداد يؤدي إلي خلل كبير في منظومة القيم فتقل أخلاق القوة وتزيد أخلاق الضعف والانحلال حتي تسقط الدولة: “فقد تبيّن أنّ خلال الخير شاهدة بوجود الملك لمن وجدت له العصبيّة فإذا نظرنا في أهل العصبيّة فوجدناهم يتنافسون في الخير وخلاله من الكرم والعفو عن الزّلّات والاحتمال من غير القادر، والقرى للضّيوف، وحمل الكلّ، وكسب المعدوم، والصّبر على المكاره، والوفاء بالعهد، وبذل الأموال في صون الأعراض، وتعظيم الشّريعة، وإجلال العلماء، والحياء من الأكابر والمشايخ وتوقيرهم وإجلالهم، والانقياد إلى الحقّ مع الدّاعي إليه، وإنصاف المستضعفين من أنفسهم، والتّواضع للمسكين، واستماع شكوى المستغيثين، والتّديّن بالشّرائع والعبادات والقيام عليها وعلى أسبابها، والتجافي عن الغدر والمكر والخديعة ونقض العهد وأمثال ذلك علمنا أنّ هذه خلق السّياسة قد حصلت لديهم واستحقّوا بها أن يكونوا ساسة لمن تحت أيديهم أو على العموم وأنّه خير ساقه الله تعالى إليهم، وبالعكس من ذلك إذا تأذّن الله بانقراض الملك من أمّة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرّذائل وسلوك طرقها فتفقد الفضائل السّياسيّة منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم ويتبدّل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك وجعل في أيديهم من الخير ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً﴾ 17: 16» واستقرئ ذلك وتتبّعه في الأمم السّابقة تجد كثيرا ممّا قلناه”(تاريخ ابن خلدون، بتصرف).
ويوكد الكواكبي رحمه الله المعني السابق بقوله: “الاستبداد يضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحسِّ وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. بناءً عليه، يرى الآباء أنَّ تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بدَّ أنْ يذهب عبثاً تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم، أو تربية غيرهم لأبنائهم سدىً” ويقول أيضاً: “وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحوِّل ميلها الطبيعي من طلب الترقّي إلى التسفُّل، بحيث لو دُفِعَت إلى الرِّفعة لأبت وتألَّمت كما يتألَّم الأجهر من النور، وإذا أُلزِمَت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أُطلِق سراحها. عندئذٍ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفكُّ عنها حتى تموت ويموت هو بموتها “(طبائع الاستبداد).
رابعاً: الوحدة مقابل الفرقة:
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:105)، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: “العذاب في هذا الوعيد يشمل الدنيا والآخرة، قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ما معناه: أما عذاب الدنيا فهو أنّ المتفرّقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحكّموا في دينهم آراءهم؛ يكون بأسهم بينهم شديداً، فيشقى بعضهم ببعض، ثمّ يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء، فتذيقهم الخزي والنكال، وتسلبهم عزة الاستقلال. أما عذاب الآخرة فقد بيّن الله في كتابه أنّه أشدّ من عذاب الدنيا وأبقى” (تفسير المنار).
والشجرة لا يهزها إلا فرع منها، والتنازع الداخلي أشد خطراً من العدو الخارجي . روى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنةٍ عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنةٍ عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال: من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً».
وقد أدرك أعداء الأمة أن سر قوة المسلمين في وحدتهم وأنهم يهزمون من داخلهم لا من خارجهم”فبدأوا يسلطون معاول هدمهم على هذا الركن المتين من أسباب القوة، فمنذ عصر الخلافة الإسلامية والنصارى وأذنابهم وأعوانهم إلى زمننا هذا يسلطون جهودهم لتفريق المسلمين وتأليب بعضهم على بعض، وإثارة الأحقاد والضغائن في نفوس بعضهم على بعض لكي لا تجتمع لهم كلمة، و لا يلتئم لهم صف، لقد كان لأعداء الإسلام أعظم دورٍ في سقوط كثيرٍ من دول الإسلام بسبب تسلطهم على هدم هذا الجانب، وإذا شئتم أقرب الأمثلة، فانظروا تسلطهم في دويلات الأندلس؛ حيث سلطوا بعض المسلمين على بعض، فلما تفرق المسلمون وأصبحوا ملوكاً للطوائف، أصبحوا لقمةً صغيرةً سائغةً أمام أعدائهم، فأكلوهم دويلةً دويلةً حتى سقطت غرناطة آخر قلعة من قلاع الإسلام كان يملكها بنو الأحمر، وخرج أميرها وهو يقول: وداعاً يا غرناطة وداعاً لا لقاء بعده”. (سعد البريك ، وجوب الوحدة ونبذ الفرقة بين المسلمين، بتصرف).
والجدير بالذكر أن الخلاف الفقهي المذموم كان سبباً لنفاذ الاستعمار التشريعي إلي مصر وإزاحة الشريعة الإسلامية من المحاكم ليحل محلها القانون الوضعي. يقول الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله: “ومن الثابت تاريخيًا أن القوانين الأوروبية نقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل. وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه، لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كل بمذهبه والتعصب له وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود”(الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه).
خامساً : إعمال السنن الكونية مقابل إهمالها:
لله عز وجل سنن وقوانين في النفس الإنسانية، و في الكون والحياة و في صعود الأمم وهبوطها، واحترام هذه السنن وتلك القوانين يؤهل الإنسان المسلم للخلافة التي أرادها الله له وخلقه من أجلها، أما إهمال السنن فيزري به ويوقعه في قبضة غيره كما يهوي بالدولة من القمة إلي السفح. “إن الله قادر على تبديل فطرة الإنسان، عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه. ولكنه سبحانه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة لحكمة يعلمها. وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والرغبة في الهدى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:69)، وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً، ولا تمحى ولا تعطل: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ (الشمس:7 – 10)، وشاء أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد:11). ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة:251) وشاء أن يبلغ الإنسان من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد، وما يُنفق من الطاقة، وما يصبر على الابتلاء في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم، وفي دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت:2،3) وليس لأحد من خلق الله أن يسأله – سبحانه -لماذا شاء هذا كله على هذا النحو الذي أراده فكان” (علي بن نايف الشحود،النصر والتمكين ، المكتبة الشاملة).
يقول سيد قطب رحمه الله : “ما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من غثائية فأصبحت كالقصعة المستباحة إلا بسبب جهل أبنائها بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الأفراد والأمم والشعوب، وفق المنهج الذي قرره العليم الخبير: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 14).، فالذي يطلب الأسباب ليخرج من ظلمات هذا التيه على غير بصيرة لا يزيد إلا بعدا، ولن يفهم التاريخ، فيعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء والتمكين، وعوامل الهدم والخوف والتدمير و الاستبدال إلا بمعرفة سنن الله عز وجل. لقد أصاب المسلمين القرحُ في غزوة أحد، وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابياً، وكسرت رباعية الرسول – صلى الله عليه وسلم -وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر، حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم﴿أَنَّى هذا﴾ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعاً في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول. والسنن التي يشير إليها السياق القرآني هنا، ويوجه أبصارنا إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين. إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها. ﴿فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾. وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة، بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه. وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً، ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى” (في ظلال القرآن، بتصرف).
تطبيقات عملية:
1. “إعمال السنن الكونبة مقابل إهمالها” حلقة نقاش كبف كان ذلك سبببا مهما في صعود الأمم الغربية وتراجع الأمم الاسلامية
2. هذا الدرس ينطبق علي الأمم والجماعات ……….كيف يمكن اسقاط هذه العوامل وغيرها علي جماعتنا؟؟