الجمعة , أكتوبر 10 2025
الرئيسية / إسلاميات / الأسبوع الأول: من أسباب صعود الأمم والجماعات وهبوطها (1)

الأسبوع الأول: من أسباب صعود الأمم والجماعات وهبوطها (1)

الافتتاحية: الآية 16 من سورة الأسراء

قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» (الاسراء:16)

  المُتْرَفُ هو المتنعم المُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها «لسان العرب»، جاء في زبدة التفسير- مختصر تفسير الشوكاني رحمه الله: «المترفون هم المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، وهم الجبارون المتسلطون و الملوك الجائرون و الأغنياء الفاجرون”.

                        وقال سيد قطب-رحمه الله: “والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة والراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم و تأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلَغُ في الأعراض و الحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، و نشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها. ومن ثَمَّ تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها” (في ظلال القرآن).

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “في معنى قوله ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ أن الأمر في قوله ﴿أَمرنا﴾ هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به ﴿فَفَسَقُواْ﴾ أي: خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله. ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ أي : وجب عليها الوعيد ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ أي : أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم. وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة، كقوله : ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾. فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ﴾ أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء. ومن الآيات الدالة على هذا : قوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾. فقوله في هذه الآية ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ﴾الآية : لفظ عام، في جميع المترفين، من جميع القرى، أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم : ﴿إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم، والآيات بمثل ذلك كثيرة … وهذا القول الصحيح في الآية جارٍ على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: « أمرتُه فعصاني»، أي : أمرته بالطاعة فعصى، وليس المعنى : أمرته بالعصيان، كما لا يخفى “( أضواء البيان، بتصرف).

دروس مستفادة من الآية:

  • الترف والمترفون هم سبب تلف المجتمعات وتعريضها للعذاب والمهلكات.

  • لله في الأمم والكون والمجتمعات سنن يجب مراعاتها وفهمها جيداً.

  • …………………………….أذكر أخرى

من أسباب صعود الأمم والجماعات وهبوطها

أولاً: الاعتدال مقابل الترف:

                                “الحضارة مشروطة بطائفة من العوامل هي التي تستحث خطاها أو تعوق مسارها”(ويل ديورانت، قصة الحضارة) والتوسط والاعتدال من عوامل الصعود للأفراد والجماعات والأمم والحضارات، كما أن السرف والترف من أسباب الهبوط والسقوط لها جميعاً؛ فالترف يؤدي إلي الفسق والفجور والإجرام والفساد في الأرض، ومن ثم يجلب الخراب والدمار، وهذه كلها من إفرازات الترف التي ذكرها القرآن الكريم. قال تعالي: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ (هود:116) وقال تعالي: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء:16). والترف يغري بالقعود والجمود ومقاومة التغيير للأفضل، ورفض الاستجابة للحق. ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (الزخرف:23). يقول الدكتور وهبة الزحيلي: “والمترف: الذي أبطرته النعمة وسعة العيش. والذين ظلموا: هم تاركو النهي عن المنكر. واتّباعهم التّرف: اشتغالهم بالشهوات والمال واللذات والرياسات، واستمرارهم على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، وعدم التفاتهم إلى إنكار المصلحين منهم والناصحين لهم. والحال أنهم كانوا مجرمين، أي ظالمين، فالله تعالى لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ (هود: 101) وفي الآية إشارة إلى أن الترف مدعاة إلى الإسراف، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان، والظلم والانحراف”(التفسير الوسيط).

والترف سبب لسقوط الأفراد والجماعات والدول بل وزوال الحضارات: “فالحضارة العظيمة لا يقضى عليها من الخارج إلا بعد أن تقضي هي على نفسها من الداخل. وشاهد ذلك أنا نجد الأسباب الجوهرية لسقوط روما في شعب روما نفسه، أي في أخلاقها، وفي النزاع بين طبقاتها، وفي كساد تجارتها، وفي حكومتها الاستبدادية البيروقراطية، وفي ضرائبها الفادحة الخانقة وحروبها المهلكة”(ويل ديورانت). والترف يؤدي إلي انحطاط الأخلاق ومن ثم إلي الهلاك كما ذكر القرآن الكريم ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ فالترف هو الطريق إلي الفسوق وفساد الأخلاق الذي يؤدي إلي السقوط. وقد كان الترف “سبباً لسقوط الدولة الأموية، ويوم أن غَرِقَتْ الدولةُ العباسيةُ في الترف والنعيم تمزقت وتحولت إلى دويلات ثم انتهى الأمر بسقوط الخلافة الإسلامية” (عصام بن هاشم الجفري، صيد الفوائد). ويقول الشيخ سلمان العودة “الترف يورث الغفلة عن صيانة الدولة وصيانة الملة، ويجعل الناس مشتغلين بشهواتهم ولذاتهم”(أسباب سقوط الدول).

ويحلل ابن خلدون كيف تتحلل الدولة في ظل الترف والدعة فيقول: “إن طبيعة الملك تقتضي التّرف فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بمصارفهم؛ فالفقير منهم يهلك، والمترف يستغرق عطاءه بترفه، ثمّ يزداد ذلك في أجيالهم المتأخّرة إلى أن يقصر العطاء كلّه عن التّرف وعوائده وتمسّهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم وتضعف الدّولة بضعفهم، وأيضا إذا كثر التّرف في الدّولة وصار عطاؤهم مقصّرا عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج السّلطان إلى الزّيادة في أعطياتهم حتّى يسدّ خللهم ويزيح عللهم فإذا وزّعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزّيادة لكلّ واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم اضطر السلطان إلي إنقاص عدد الحامية (الجنود)حتي يوازن بين الجباية والأعطيات مما يؤدى إلي ضعف قوّة الدّولة ويتجاسر عليها من يجاورها من الدّول أو من هو تحت يديها من القبائل ويأذن الله فيها بالفناء، وأيضا فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ والسّفسفة وعوائدها فتذهب منهم خلال الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدّولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها. كما أنّ طبيعة الملك تقتضي الدّعة، وإذا اتّخذوا الدّعة والرّاحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة وجبلّة فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد التّرف والدّعة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنكسر شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بما تلبّس من ثياب الهرم” (تاريخ ابن خلدون، بتصرف).

ويقول في موضع آخر “إنّ التّرف والنّعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم إلى مذاهب الحضارة والتّخلّق بعوائدها و التّفنّن في التّرف واستجادة أحواله والكلف بالصّنائع الّتي تزين من أصنافه وسائر فنونه من الصّنائع المهيّئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية أو لسائر أحوال المنزل. وإذا بلغ التّأنّق في هذه الأحوال المنزليّة الغاية تبعه طاعة الشّهوات فتتلوّن النّفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها”(تاريخ ابن خلدون، بتصرف). وقد بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد الفاصل بين الترف والاعتدال؛ يقول ابن خلدون في تاريخه”كان الدّين أوّل الأمر مانعا من المغالاة في البنيان والإسراف فيه كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة وقد وقع الحريق في القصب الّذي كانوا بنوا به من قبل فقال افعلوا ولا يزيدنّ أحد على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان والزموا السّنّة تلزمكم الدّولة وعهد إلى الوفد أن لا يرفعوا بنيانا فوق القدر قالوا: وما القدر؟ قال: «لا يقرّبكم من السّرف ولا يخرجكم عن القصد». وقد جعل ابن خلدون أحد فصول كتابه في التاريخ بعنوان: “أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم”.

وقد قسم ابن خلدون الأطوار التي تمر بها الدولة منذ نشوئها حتي اضمحلالها إلي خمسة أطوار جعل آخرها: “الطّور الخامس طور الإسراف والتّبذير ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور متلفا لما جمع أوّلوه في سبيل الشّهوات والملاذّ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السّوء وخضراء الدّمن وتقليدهم عظيمات الأمور الّتي لا يستقلّون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتّى يضغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيّعا من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده فيكون مخرّبا لما كان سلفه يؤسّسون وهادما لما كانوا يبنون وفي هذا الطّور تحصل في الدّولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض الّذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض”(تاريخ ابن خلدون).

وقد جاء الإسلام ليقيم حياة الناس علي الاعتدال ليسعدوا في معاشهم ومعادهم. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “تضمن الإسلام طائفة من الإرشادات المتصلة بحياة المسلمين الخاصة قصد بها إلى تنظيم شئونهم البدنية والنفسية ووضعها على أساس كريم. هى آداب تتعلق بمطعم الإنسان وملبسه ومسكنه وسائر آماله التى يسعى إليها فى هذه الحياة لا يجنح بها إلى الرهبانية المغرقة ولا إلى المادية الجشعة فهى تقوم على التوسط والاعتدال ومن ثم فتنفيذها سهل قريب. إن الإسلام يقرن بين مطالب الجسم والنفس فى تعاليمه، ويكف طغيان أحدهما على الآخر، ويرى فى تنسيق حاجاتهما عونا للمرء على أداء رسالته فى هذه الحياة وما بعدها. والفلسفات التى نبتت فى الأرض والتى اصطنعها الناس ليحيوا فى نطاقها عندما غابت عنهم هدايات السماء، هذه الفلسفات قلما نجحت فى التوفيق بين ضرورات البدن وأشواق الروح. وبين كفالة الآخرة التى سنصير إليها ورعاية الدنيا التى بدأنا المسير منها”(خلق المسلم). وقال تعليقاً علي أحاديث تحريم الذهب والحرير علي الرجال:”قد يفهم من ذلك أن الخشونة سمة الحياة الإسلامية، ولو صح هذا الفهم فأى عيب فيه؟ على أنه من المستغرب أن تُقرن ليونة العيش باستعمال الحرير والذهب!! إن جماهير البشر يمكنهم أن يحيوا سعداء وادعين دون أن يتحلوا بذهب أو يرتدوا الحرير . لكن الإسلام يريد أن يجتث جذور الترف من معيشة الفرد ومعيشة الجماعة حتى يسلم للأمم كيانها ويبقى تماسكها وجدير بالأمة المسلمة أن تجعل حياتها جندية لله وتاريخها جهادا موصولا لإعلاء الحق وحماية دعوته وظاهر أمرها وباطنه ترفعا عن نتن الدنيا وملاهيها الصغيرة . أما التهالك على الشهوات والتهاوى فى المحرمات فهو فرار من التكاليف ونكوص عن الجد وتضييع لمعالم الشرف، وتلك خلال إن تسربت إلى أمة وأدتها… والحق أن كفلا ضخما من تصدع الدولة الإسلامية يرجع إلى ضياع العفة وشيوع الملذات، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الانحلال النفسى. فعن أبى برزة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى»(الجامع الصحيح)” (خلق المسلم، بتصرف).

ثانياً: العدل مقابل الظلم:

                      العدل صفة من صفات الله تعالي؛ فهو الحكم العدل اللطيف الخبير، والعدل قانون الله تعالى في معاملة خلقه فقد مضت سنته أنه لا يظلم الناس شيئاً وأنه يبقى الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويزيل الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة، يقول الدكتور وهبة الزحيلي: “أوضح الله تعالى قانونه العام وسنته في البشرية بقوله: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ (هود:117) أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى ظالما لها، وأهلها قوم مصلحون، تنزيها لله تعالى عن الظلم، وإعلاما بأن إهلاك المصلحين من الظلم. والمراد أن الله تعالى لا ينزل عذاب الاستئصال على مجرد كون القوم مشركين أو كافرين، بل إنما ينزل العذاب إذا أساءوا في المعاملات، وسعوا في الإيذاء والظلم، كما فعل قوم شعيب في مدين، وقوم هود في الأحقاف شمال حضرموت، وقوم فرعون في مصر، وقوم لوط في ديار سدوم في الأردن، وقوم صالح في الحجر بين الحجاز والشام. ويؤيد ذلك أن الأمم تبقى مع الكفر، ولا تبقى مع الظلم”(التفسير الوسيط).

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن الله تعالي لم ينصر أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم علي الفرس والروم مجاملة للجنس العربي ولكن لأن عدل أبي بكر وعمر كان أنفع للبشرية من جور كسري وقيصر”(القومية العربية) ويؤكد هذا المؤرخ الشامي محمد كرد علي إذ يقول: “كانت الدولة الرومانية في عهود عدلها تكتفي بجذ الرعية أما في عهود جورها فكانت تنتفها أو تسلخها” (الخطط الشامية). وعندما ضرب الظلم أركان الدولة العثمانية في شيخوختها كان ذلك إيذاناً بسقوطها. يقول الصلابي: “انتشر الظلم في الدولة العثمانية، والظلم كالمرض في الإنسان يعجل بموته بعد أن يقضى المدة المقدرة له وهو مريض، وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة يعجل في هلاكها بما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلاكها واضمحلالها خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر لها ولذلك زالت الدولة العثمانية من الوجود”(الصلابي، الدولة العثمانية).

والعدل أساس الملك، والظلم مقوض له هادم لبنيانه مخرب لعمرانه”فإن من أهم العوامل المؤثرة في تكامل المجتمعات وازدهار الحضارات هو الالتزام العملي بالعدالة وتثبيت الخطى في طريقها في كل ميادين الحياة. كما أن الخروج عن جادة العدل والانحياز إلى الظلم والجور والاستبداد من أهم عوامل سقوط الأمم وانهيار الحضارات. ويحذر القرآن الكريم من مغبة الانحراف عن جادة العدل: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على الاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون﴾ (المائدة:8). وقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وان تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا﴾ (النساء:135). ويمدح القرآن الكريم الأمم التي أقامت العدل في حياتها واستقامت عليه كما في قوله تعالى: ﴿وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ (الأعراف:181). ويؤكد أن الأمم إنما هلكت ولحقها الدمار نتيجة ردّ فعل طبيعي لأفعالها وظلمها وفقاً لسنة الله التي لا تقبل التغيير ﴿فَكُلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله لِيظلمهم ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون﴾ (العنكبوت:40). فالدول والجماعات و المجتمعات لا تستقيم ولا تسعد ولا تترقى ولا تدوم إلاّ بالعدل، لأن جرثومة الظلم الفتاك سُمُّها الزعاف الذي يذهب بعزها واقتدارها وكرامتها وبالتالي يقضي على حضارتها ووجودها. و بالعدل قامت السماوات والأرض. (رسالة القرآن- العدد الثاني لسنة 1411 ه، بتصرف).               

ويذكر ابن خلدون بعض سوءات الظلم وآثاره الوبيلة علي الفرد والمجتمع والدولة فيقول رحمه الله: “اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة، وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته. وزيادة العمران أو نقصه إنّما هو علي قدر الأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب؛ فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وساءت الأحوال وتفرقّ النّاس في الآفاق من غير ذلك الجد في طلب الرّزق؛ فخفّ ساكن القطر وخلت دياره واختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان؛ فالعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعا”(ابن خلدون، المقدمة، بتصرف).

وقد حكي المسعودي أن الموبذان وهو أحد حكماء الفرس الكبار علي عهد الملك بهرام بن بهرام أراد أن ينصح الملك بطريقة غير مباشرة خشية أن يذهب الظلم بملك فارس فقال للملك: “إنّ بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى وإنّها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيّام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيّام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام. فتنبّه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن مراده فقال له: أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل إلى المال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك وأنت أيّها الملك عمدت إلى الضّياع فانتزعتها من أربابها وعمّارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنّظر في العواقب وما يصلح الضّياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمّار الضّياع فانجلوا عن ضياعهم وخلّوا ديارهم وأووا إلى ما تعذّر من الضّياع فسكنوها فقلّت العمارة وخربت الضّياع وقلّت الأموال وهلكت الجنود والرّعيّة وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع الموادّ الّتي لا تستقيم دعائم الملك إلّا بها”(تاريخ ابن خلدون) فأخذ بهرام بنصيحة الموبذان فرد المظالم وأقام العدل فصلح أمر المملكة في عهده.

تطبيقات عملية:

  1. “إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويزيل الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة” بين أهمية هذه المقولة مستدلا بأمثلة من التاريخ القديم والحديث

  2. “الاعتدال مفابل الترف” كيف نربي أنفسنا علي ذلك

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. من تراث الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *