الدرس الثالث: الحرية فريضة شرعية وضرورة بشرية
23 مارس، 2016
إسلاميات, تربوى
617 زيارة
الدرس الثالث: الحرية فريضة شرعية وضرورة بشرية
الافتتاحية: الآية 256 من سورة البقرة
قال تعالي: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256).
سَبَبُ نزول هذه الآية أن رجلاً من الأنصار كان له ابنان تنصّرا قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قدما المدينة في نفرٍ من التجار يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما فنزلت ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾. وفي تفسير هذه الآية يقول الدكتور وهبة الزحيلي: “الإكراه في الدين ممنوع، ولا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين، ولا يصح الإلجاء والقهر بعد أن بانت الأدلة والآيات الواضحة الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلّغه عن ربه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.فمن يكفر بالأصنام وكل ما يعبد من دون الله، ويؤمن بالله واجب الوجود، الإله الواحد من غير شريك، فقد بالغ بالتمسك بالعروة الوثقى المأمون انقطاعها، والله سميع لأقوال الناس، عليم بمعتقداتهم وأفعالهم”(التفسيرالوسيط).
وجاء في الموسوعة القرآنية: “﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ أي لم يجز الله أمر الايمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار.فقد تميز الايمان من الكفر بالدلائل الواضحة. فَمَنْ يَكْفُرْ بالشيطان، أو الأصنام. وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي الحبل الوثيق المحكم الذي لا ينقطع. وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصور السامع كأنه ينظر اليه بعينيه فيحكم اعتقاده والتيقن به. وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع لكم ما تقولون.عَلِيمٌ بما تفعلون وتبطنون”(الموسوعة القرآنية).
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إن قضية العقيدة- كما جاء بها هذا الدين- قضية اقتناع بعد البيان والإدراك وليست قضية إكراه وغصب وإجبار. ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته. يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكنة. يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجىء مشاهدها الجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك. وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع. وكانت المسيحية- آخر الديانات قبل الإسلام- قد فرضت فرضاً بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية. بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعاً وحباً! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح! فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن- في أول ما يعلن- هذا المبدأ العظيم الكبير: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني.التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله- باختياره لعقيدته- أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا- وهو يحرمه من الإيمان باله للكون يصرف هذا الكون- وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب. إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق «الإنسان» التي يثبت له بها وصف «إنسان» . فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة.. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام- وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء- هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين. فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضاً بسلطان الدولة ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾. نفي الجنس كما يقول النحويون.. أي نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداء. فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي- والنفي للجنس- أعمق إيقاعاً وآكد دلالة. ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه، وتشوقه إلى الهدى، وتهديه إلى الطريق”(في ظلال القرآن).
دروس مستفادة من الآية:
• الإسلام يقرر حرية العقيدة ويحميها، ولا يكره أحداً علي الدخول في الإسلام.
• الإسلام يزيل الحواجز التي تحول بين الإنسان وبين الاختيار الحر للعقيدة التي ارتاح لها ضميره.
• ………………………………أذكر دروساً أخري.
مفهوم الحرية في الإسلام:
الحرية “لغة: هى الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم وكون الشعب أو الرجل حراً، وهذه الكلمة بتصريفها فى اللسان العربى تُنبئ عن معانى كثيرة ترجع إلى معنى الخُلوص والتحرر من القيود وعدم الاكراه أو الضغط على إرادة الإنسان، والشرف والكرم واستقلال الإرادة. و اصطلاحا: هى المُكنة العامة التى يقررها الشارع للأفراد، بحيث تجعلهم قادرين على أداء واجباتهم واستيفاء حقوقهم، واختيار ما يجلب المنفعة ويدرأ المفسدة دون إلحاق الضرر بالآخرين”(على بن حسين بن أحمد فقيهى، مفهوم الحرية دراسة تأصيلية، بتصرف).
والإنسان في الإسلام كيان متكامل لا يمكن فصل روحه عن جسمه إلا إذا فارق الحياة، والحرية في الإسلام تشمل كل مكونات الكيان الإنساني؛ فهي تحرير لعقل الإنسان من قيود الجهل والخرافة والدجل والكهانة والخدر والغيبوبة، وتحرير لضمير الإنسان من أسر الإكراه والتسلط والقهر والجبر، وإخراجه من بئر اليأس و جب التبرير، وتحرير لإرادة الإنسان من صرعة الغريزة والانقياد للشهوة، والركون لهوي النفس وذل الرغبة والرهبة، وتحرير لكيان الإنسان كله من سجن الحاجة والفاقة والاستغلال والسخرة والاستعباد، وإخراجه من شرنقة الرياء والتملق والتقليد؛ فإذا اختارالإنسان شيئاً اختاره بإرشاد عقله، واتجاه قلبه، وأشواق روحه، وخضوع جوارحه لعقله وقلبه وروحه دون قلق علي نفسه أو أهله أو ماله أو مكانته، ودون مجاملة لكبير أو رهبة من جبار، أو تملق لفرد أو هيئة. وقد عبر ربعي بن عامر رضي الله عنه عن معني الحرية في الإسلام أصدق تعبير عندما أجاب رستم بقوله: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”(راجع سيرة ابن اسحاق).
وهنا يجب التأكيد علي مايلي:
• العبودية لله تعالي عين الحرية، والمسلم صحيح الإسلام عبد لله وحده سيد في الكون كله. لا يحني صلبه، ولا يطأطئ هامته إلا لله، ولا يخضع إلا لعظمته، ولا يتذلل إلا له وحده سبحانه وتعالي، ويكفي وصف الله تعالي أنبياءه بهذه الصفة في معرض المدح. قال تعالي ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة:23) وقال تعالي: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص:17) وقال تعالي: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (ص:41) وقال تعالي: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ (النساء:172).
• كلما ازدادت عبودية الإنسان لله تعالي ازدادت حريته وسيادته في الكون، فمن كان عبداً لله وحده، لا يستعبده الهوي، ولا يستعبده الدينار والدرهم، ولا تستعبده المتعة واللذة، ولا يستعبده طلب السلامة ولا طلب الغنيمة، ولا يستعبده صاحب جاه أو سلطة. “تعس عبد الدينار. تعس عبد الدرهم. تعس عبد الخميصة والقطيفة. تعس وانتكس ولا شيك فلا انتقش”(متفق عليه) يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “أما ذلة العبد لعبد مثله فباطل لا ريب، والمتكبر هنا متطاول مبطل يزعم لنفسه ما ليس لها، والوضيع المستعبد جاهل بقدره تحمل من الأوزار ما لا يطيق. وقد حرم الإسلام الكبر وحرم الذل وأوجب العزة”(خلق المسلم).
• الحرية في الإسلام تعني التخلص من كل القيود التي تعوق سير المؤمن إلي ربه، ولتحرير العقل من الخرافة والتقليد أمر الإسلام بالتفكر في صفحات الكون ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:190-191).
• الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية جزء من مفهوم الحرية في الإسلام، وهي مضبوطة بتعاليم الشرع الحنيف. يتمتع فيها الفرد بحقه ويؤدي حق الله وحق الناس. وقد ضمن الإسلام للإنسان حرية التعبير، وحرية السفر والتنقل، وحريةالاجتماع، وحرية التملك، وحرية تكوين الجمعيات والمنظمات والأحزاب والجماعات. وجعل الإسلام اختيار الحاكم ومراقبته وعزله حقاً للرعية. واختيار الخليفة مصنف ضمن العقائد، وقد قدم الصحابة الكرام اختيار الخليفة علي دفن النبي صلي الله عليه وسلم.(راجع مثلاً: محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين الإسلام والإعلان العالمي).
الحرية في فكر الإمام البنا:
من جوانب الوطنية التي أقرها الإمام البنا ما أطلق عليها وطنية الحرية والعزة فقال رحمه الله: “وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير الوطن من الغاصبين وتوفير استقلاله، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضا”(رسالة دعوتنا)، وقد عد الإمام البنا من مراتب ركن العمل الذي يبايع عليه الإخوان: “تحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي سياسي أو اقتصادي أو روحي”(رسالة التعاليم)، وقد حدد الإمام البنا أصولاً عشرة للنظام الاجتماعي في الإسلام هي: “الإخاء الإنساني، والسلام، والحرية، العدل الاجتماعي، والحياة الطيبة، والأسرة، و العمل والكسب، والعلم، والنظام وتقدير الواجب، والتدين”(رسالة اتجاه النهضة الجديدة في العالم الإسلامي) والفهم الشامل للإسلام عند الإمام البنا جعل: “الحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه” وشعار الإخوان: “دعوة الحق والقوة والحرية”.
وهنا نلاحظ تأكيد الإستاذ البنا علي المعاني الآتية:
• حرية المواطن وحفظ كرامته مفهوم أساسي من مفاهيم الوطنية.
• تحرير الأوطان الإسلامية من كل سلطان أجنبي واجب ديني ووطني.
• الحرية أصل من أصول النظام الاجتماعي في الإسلام.
• الحرية قيمة بل فريضة إسلامية.
• دعوة الإخوان شعارها الحق والقوة والحرية.
من التطبييقات العملية لتحرير الإسلام للإنسان:
• الإلغاء التدريجي للرق: بتوسيع منافذ العتق وتجفيف منابع الرق حتي اختفي الرقيق تماماً. يقول الدكتور محمد عمارة: “لما جاء الإسلام وقامت دولته بالمدينة، حرم وألغى كل المنابع والروافد التي تمد نهر الرقيق بالجديد، ووسع مصبات هذا النهر، عندما حبب إلى الناس عتق الأرقاء، بل وجعله مصرفاً من مصارف الأموال الإسلامية العامة، وصدقات المسلمين. وعندما جعل العديد من الكفارات هي تحرير الرقبة. وعندما سنَّ شرائع المساواة بين الرقيق ومالكه، في المطعم والمشرب والملبس، ودعا إلى حسن معاملته، والتخفيف عنه في الأعمال. حتى لقد أصبح الاسترقاق في ظل هذه التشريعات عبئاً اقتصادياً يزهد فيه الراغبون في الثراء؟. فلم يكن موقف الإسلام من «الحرية». وعداؤه «للعبودية» مجرد موقف «فكري نظري» وإنما تجسد على أرض الواقع تجربة إصلاحية شاملة غيرت المجتمع الذي ظهر فيه تغييراً جذرياً”( (الإسلام وحقوق الإنسان).
• وثيقة المدينة تقرر حرية العقيدة والحريات المدنية: يقول الدكتور محمد عمارة: “ومن التطبيقات العملىة لمنهج الاسلام فى ممارسة الحرية نجده في الوثيقة التي وضعها الرسول بعد هجرته إلى المدينة سنة 622م. وهي وثيقة تنظم العلاقات داخل المدينة بين المسلمين، وبينهم وبين المجموعات البشرية الأخرى وخصوصا اليهود. وتعرف هذه الوثيقة تاريخيا باسم الصحيفة، أو صحيفة المدينة، أو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة. وهذه الوثيقة ربما تكون الأولى من نوعها في التاريخ تضع أسسا متقدمة للاجتماع السياسي من خلال التأكيد على أمرين أساسين هما: حرية العقيدة والعبادة، فلكل إنسان الحق في دينه لا يضايق عليه. والتعددية والمساواة بين مواطني المدينة بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. فجميع المقيمين في دولة المدينة المنورة، مهما اختلف دينهم مواطنون فيها، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. وهذا أهم تأسيس لمفهوم المواطنة في الإسلام. إن هذه الوثيقة في تفاصيلها الكثيرة تصرف نبوي بوصفه رئيسا للدولة، لكنها في توجهاتها العامة تعكس المبادئ الإسلامية العليا التي يجب أن يتخذها المسلمون نبراسهم في واقعهم السياسي وفي دأبهم لتطويره.( الإسلام وحقوق الإنسان).
• إيقاف تنفيذ حد السرقة في عام الرمادة: وذلك لأن ضغط الحاجة في ظل المجاعة، جعل حرية الإنسان غير كاملة، أي أن إرادته لم تعد حرة، وبالتالي فإن شروط تطبيق الحد علي السارق لم تعد متوفرة. فتحرير الإنسان من قبضة الفقر وعضة الجوع مقدم علي تطبيق الحد بل هو شرط لتطبيقه. وهذا ما يؤكده الدكتور القرضاوي إذ يري أن حرية الاعتقاد شرط قبول الإيمان، وأن إطلاق الحريات مقدم علي تطبيق الشريعة(برنامج الشريعة والحياة).
أهمية الحرية في بناء الفرد والمجتمع:
• الحرية تطلق الطاقات: فالاستبداد يطمس المواهب ويعطل الطاقات، والحرية وحدها هي التي تطلق هذه الطاقات المعطلة من عقالها؛ فتكون بمثابة التيار الكهربي الذي يصل إلي آلة صالحة للعمل بعد أن كان مقطوعاً عنها بفعل فاعل هو الاسبتداد والتسلط.
• الحرية تفجر الإبداع: فالمجتمعات الحرة هي البيئة المناسبة للإبداع والابتكار والتطوير؛ لأنه لا إبداع بلا حرية؛ ولا حرية بلا مسئولية. والحرية بمثابة القوة التي تحطم القيود المعيقة للتفكير الإبداعي، فينطلق إلي الفضاء الرحب حيث يخرج مكنوناته وإبداعاته التي ينتفع بها الناس.
• الحرية تصقل التفكير: فالتفكير في ظل قيود الاستبداد والقمع أو قيود الجمود والتقليد، أو قيود الرغبة والرهبة، أو قيود الحاجة والفاقة تفكير كسيح مشلول معاق بهذه القيود التي جمدت أطرافه وأوهت قواه، أو تفكير ضرير لا يبصر إلا مواقع أقدامه وزوايا الصندوق الضيق الذي انحصر فيه، أو تفكير معلول بعلل الحاجة والحرمان لا يحسن التفكير إلا في قضاء الوطر وسد الحاجة، ولا أمل له في مستقبل قريب أو بعيد. أما التفكير الحر الذي هو ثمرة التربية الحرة لابد أن ينتج عقولاً حادة مصقولة تفكر خارج الصندوق، متحررة من هذه الجواذب فتنتفع بعبر الماضي وتفكر في حل مشكلات الواقع وترنوا إلي المستقبل بأفق واسع وأمل عريض وعليهما يقوم التطوير. وقد جعل الله تعالي التفكير الحر طريقاً إلي الإيمان والإفلات من براثن الشرك. قال تعالي: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ (سبأ:46).
• الحرية تولد المسئولية: فالعبد لا يشعر في قرارة نفسه بقدرته علي الاختيار، وبالتالي لا يري نفسه مسئولاً عن أفعاله، وليس أدل علي ذلك من اعتذارهم عن الشرك بتقليد الآباء واتباع الكبراء ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب:67-68) ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (الزخرف23-25)، وحرية الإرادة في الشريعة الإسلامية شرط لنفاذ العقود؛ فطلاق المكره لا يقع، وبيع المكره لا ينعقد، وبيعة المكره لا قيمة لها، وبالتالي أي انتخابات تجري في ظل القمع والقهر والتسلط والتربص لا قيمة لها من الناحية الشرعية ولا يترتب عليها أي أثر قانوني معتبر. وتحرير إرادة الإنسان تؤدي إلي زيادة إحساسه بمسئوليته، وبالتالي فإن المجتمع الحر مجتمع مسئول. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن؛ فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية” (خلق المسلم).
• الحرية تزيد التماسك: فالمجتمع الحر مجتمع قوي متماسك؛ لأن أفراده لديهم القدرة علي الاختيار الحر، والتفكير الحر، والحركة الحرة، وبالتالي تتوثق صلاتهم وتترابط جماعاتهم، وتنشأ في المجتمع الحر تنظيمات ومؤسسات مجتمع مدني قوية تقوم بكل أشكال العمل الاجتماعي: التعليمي والتربوي والصحي والإعلامي والحقوقي والإغاثي، وتخلق مسارات نافعة لتوظيف الجهود والطاقات، وتسهم بقدر كبير في حل مشكلات المجتمع وتزويده بالخدمات اللازمة له وبالتالي فهي تجبر عجز الحكومات وقصورها، وتخفف من معاناة الناس.
• الحرية تؤسس للتقدم: فإذا كانت الحرية تطلق الطاقات المعطلة، وتفجر الإبداع، وتصقل التفكير، فإنها بذلك تضع البنية الأساسية للتقدم والازدهار في شتي نواحي الحياة، وتجعل التنافس تنافساً شريفاً فيأخذ أهل الكفاءة مكانهم اللائق، أما في ظل الاستبداد فالرأي كما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: “لمن يملك العصا لا لمن يبصر الحق” ويعطي الأمر لأهل الحظوة والولاء لا لمن يحسنه ويتقنه ويكون أميناً عليه، وبالتالي يحرم المجتمع من جهود الأقوياء الأمناء المخلصين، كما يحرم من عقول المبدعين، وعلم الراسخين. وكل الإحصائيات تؤكد هروب العقول والمواهب من البلاد التي تحكمها أنظمة مستبدة لتجد طريقها في مناخ الحرية. والحضارة الغربية اليوم شيدت صرحها بعقول مجلوبة من أرجاء الدنيا هربت من جحيم الاستبداد في بلدانها فتلقفتها البلدان الغربية لتمتص رحيقها وتستخلص عصارتها، ولا تنسب شيئاً من إنجازاتها العلمية والحضارية إلي بلدانها الأصلية. ولذلك فإن الحرية تكافئ التقدم، والاستبداد يساوي التخلف.
من ضمانات ممارسة الحرية المسئولة:
• الضمانات التشريعية: فالشريعة الإسلامية تتضمن مجموعة من الأحكام تشكل نظاماً فريداً يحافظ علي حرية الإنسان بشرط عدم الإضرار بالآخرين، فالحرية الاقتصادية للفرد مكفولة بشرط الاكتساب من الحلال الخالص والإنفاق في الحلال الخالص وإخراج حق الله في المال من زكاة وصدقة وغيرها، وللحفاظ علي حقوق الآخرين وحريتهم يحرم الإسلام الغش والسرقة والنهب والغصب والاحتكار وغير ذلك، كما يحرم كل موارد الكسب الخبيث التي تتضمن كل صناعة أو زراعة أو تجارة تعمل علي إنتاج وترويج وتداول ما يضر بعقل الإنسان وجسمه وروحه مثل الخمر والمخدرات وغيرها. والحرية الاجتماعية في الإسلام مكفولة للفرد بشرط عدم الإضرار بالأخرين، فالفرد له أن يقيم علاقات اجتماعية مع من شاء باستثناء واحد هو حصر وقصر العلاقة الجنسية في الزواج الشرعي دون غيره صيانة للأعراض. والإسلام يحفظ للناس خصوصياتهم؛ فهو يمنع التحسس والتجسس والتنصت حتي في ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن شروط القيام به أن تري المنكر بغير تجسس.
• الضمانات الأخلاقية: فالمنظومة الأخلاقية في الإسلام تتضمن مجموعة من القيم التي تحافظ علي حرية الإنسان المسئولة عن عدم المساس بحريات الآخرين وحقوقهم، فمثلاً الحياء في الإسلام شعبة من الإيمان وهو خلق يمنعك كما يمنع غيرك من فضول الكلام والنظر، وبذلك يحافظ حريتك و حريات الآخرين وكذلك خلق العفة يمنعك كما يمنع غيرك من العدوان علي حقوق الآخرين بدعوي الحرية، وخلق الإيجابية يفرض علي صاحبة أن يبادر إلي مساعدة المحتاج والوقوف مع المظلوم وهو من الأخلاق التي تساعد في الحفاظ علي حرية الضعفاء وحقوقهم.
• الضمانات المجتمعية: وتعني قيام المجتمع بدور مهم في رقابة سلوك الأفراد، ودور تربوي في علاج المنحرفين؛ وذلك من خلال القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالإسلام يفرض علي أتباعه عدم السكوت علي المنكر أو مخالطة أهله، وبالتالي فإن هذه الوسيلة العملية الاجتماعية تعمل علي تعديل سلوك المنحرفين باستمرار دون حاجة إلي تدخل السلطان. وكثيراً ما يمتنع الناس عن المنكر خشية افتضاح أمرهم ونبذ المجتمع لهم. قال تعالي: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ (النساء:140).
تطبيقات عملية للتربية علي ممارسة الحرية:
• المطالبة بالحقوق والإصرار عليها.
• عدم السكوت على الظلم مهما كانت التضحيات.
• تحمل الإنسان لمسؤوليات حريته واختياره في دنياه وأخراه.
• تشجيع الأطفال على إبداء آرائهم، والاعتماد في تربيتهم علي الحواروالاقناع.
• ممارسة الحرية على أنها حق لا يجوز التفريط فيه في ضوء الضوابط الشرعية والقانونية.
• مساعدة ونصرة ودعم كل من سلبت حرياتهم من أجل استرجاعها بكل صور الدعم المختلفة.
• المحافظة على جذوة الثورة متقدة في نفوس الناس الذى ضربوا أروع الأمثلة في انتزاع حريتهم .
• التشجيع على المبادرات الذاتية للفرد حتي يشارك بفعالية في بناء نفسه بنفسه من خلال العملية التربوية.
• تكوين الإنسان وتنشئته: بالإقناع والحجة والبرهان والعبودية الحقة لله, واعتزازه بنفسه ودينه وربه.
• اشاعة جو الحرية وثقافتها في بيتي و بين إخوانى وفى محيطى الاجتماعى.
تطبيقات عملية علي الدرس:
1- قيم جو الحرية في منزلك وعملك الحياتي – حدد جوانب القصور – ابدأ في العلاج
2- يناقش القائد الثورى جو الحرية في الأسرة مع إخوانه ويحدد جوانب القصور