الخميس , أكتوبر 9 2025
الرئيسية / إسلاميات / الدرس الثانى : آفات علي الطريق

الدرس الثانى : آفات علي الطريق

الافتتاحية: سورة التغابن (الآيات14-17)

قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ (التغابن:14-17).

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “التنبيه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدواً يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية، ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء؛ فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله. والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير. كما يتعرض هو وأهله للعنت. وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده. فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال؛ فيكونون عدوا له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا. كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله. وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات. وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن. ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات”(في ظلال القرآن).

وبعد التحذير من فتنة الأزواج والأولاد يأتي الحديث عن فتنة المال والشح به عن إخراج حق الله منه وإنفاقه فيما يرضي الله عز وجل يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد. وكلمة فتنة تحتمل معنيين:الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبدا يقظين لتنجحوا في الابتلاء، وتخلصوا وتتجردوا لله. كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب، والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله. وكلا المعنيين قريب من قريب وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس، وأودعها هذه المشاعر، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء، ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج. فهذه فتنةَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة، وبالسمع والطاعة﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ- وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ وفي هذا القيد: «مَا اسْتَطَعْتُمْ» يتجلى لطف الله بعباده، وعلمه بمدى طاقتهم في تقواه وطاعته. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم »(متفق عليه) فالطاعة في الأمر ليس لها حدود، ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع. أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان.ويهيب بهم إلى الإنفاق﴿وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ﴾ فهم ينفقون لأنفسهم. وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم. فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم، ويعدها الخير لهم حين يفعلون.ويريهم شح النفس بلاء ملازما. السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه والوقاية منه فضل من الله﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ ثم يمضي في إغرائهم بالبذل وتحبيبهم في الإنفاق، فيسمي إنفاقهم قرضا لله. ومن ذا الذي لا يربح هذه الفرصة التي يقرض فيها مولاه؟ وهو يأخذ القرض فيضاعفه ويغفر به، ويشكر المقرض، ويحلم عليه حين يقصر في شكره. وهو الله ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ وتبارك الله. ما أكرمه وما أعظمه وهو ينشئ العبد ثم يرزقه، ثم يسأله فضل ما أعطاه قرضا يضاعف .ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه، ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه. يا لله!. إن الله يعلمنا بصفاته كيف نتسامى على نقصنا وضعفنا، ونتطلع إلى أعلى دائما لنراه سبحانه ونحاول أن نقلده في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة. “(في ظلال القرآن).

دروس مستفادة من الآيات:

  • الشح المطاع من الآفات التي تعيق المرء عن القيام بواجبات الدعوة وحمل أعباء الجهاد.

  • المال مال الله، وإنفاقه في سبيل الله هو الاستثمار الحقيقي له، والتجارة مع الله تعالي لا تعدلها تجارة قط.

  • ……………………………………………….أذكر دروساً أخري.

جمع رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاثة من أشد الآفات علي طريق الدعوة في حديث ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وَثَلاثٌ مُنَجِّيَاتٍ، وَثَلاثٌ كَفَّارَاتٌ، وَثَلاثٌ دَرَجَاتٌ. فَأَمَّا الْمُهْلِكَاتُ : فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بنفْسِهِ . وَأَمَّا الْمُنَجِّيَاتُ: فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ. وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ: فَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ، وَنَقْلُ الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ. وَأَمَّا الدَّرَجَاتُ: فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ، وَصَلاةٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»(أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وصححه الألباني في صحيح الجامع).

وفيما يلي نتناول بإيجاز هذه المهلكات الثلاث:

الشح المطاع:

يفرق الإمام ابن القيم رحمه الله بين الشح والبخل بقوله: “الشح شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله وحبّه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقي شره، وذلك هو المفلح”(مدارج السالكين) أما الإمام ابن تيمية رحمه الله فيري أن الشح أصل وأن البخل فرع فيقول: “وتحقيق معني الشح: أنه شدة المنع التي تقوم في النفس. كما يقال: شحيح بدينه، وضَنِين بدينه، فهو خلق في النفس، والبخل من فروعه. كما في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والشُح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا»، وكذلك في حديث عبد الرحمن بن عوف أنه كان يقول في طوافه: رب قني شح نفسي. فقيل له: ما أكثر ما تستعيذ من ذلك فقال: إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة، أو كما قال؛ ولهذا بين الكتاب والسنة أن الشح والحسد من جنس واحد في قوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فأخبر عنهم بأنهم يبذلون ما عندهم من الخير مع الحاجة، وأنهم لا يكرهون ما أنعم به على إخوانهم. وضد الأول البخل، وضد الثاني الحسد.ولهذا كان البخل والحسد من نوع واحد، فإن الحاسد يكره عطاء غيره، والباخل لا يحب عطاء نفسه، ثم قال: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ، فإن الشح أصل للبخل، وأصل للحسد، وهو ضيق النفس وعدم إرادتها وكراهتها للخير على الغير، فيتولد عن ذلك امتناعه من النفع، وهو البخل وإضْرَار المنعم عليه وهو الظلم، وإذا كان في الأقارب كان قطيعة”(مجموع الفتاوي).

والشح من آفات الطريق التي تعوق عن السير إلي الله تعالي، وقد حذر الله تعالي منه في آيات كثيرة منها قوله تعالي: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ (الأحزاب:18-19). وجعل سبحانه الفلاح في الوقاية من الشح فقال يمتدح الأنصار لتخلصهم من شح النفس: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9).

وفي السنة المطهرة تحذير وتنفير من الشح لما يتركه من آثار سيئة في النفس وفي المجتمع. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله، وما هي؟ قال: «الشرك والشح وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» (سنن النسائي). وفي حديث أبي ثعلبة الخشني يقول عليه الصلاة والسلام : «حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام»( رواه الترمذي.(وفي سنن أبي داود وغيره.

عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع». وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح»وخير الصدقة كما في الصحيحين: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى»(متفق عليه).

ومن أقوال الصالحين و الحكماء في ذم الشح والترغيب في الجود ما ورد عن الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: “عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي هو إليه طلب، يعيش في الدنيا عيشة الفقراء، ويحاسب في الاخره، حساب الأغنياء وما ورد عن عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه قال: أشد الأعمال ثلاثة: الجود من قلة، والورع فى الخلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف. قال الحسن بن علي رضى الله عنهما: من علامات المسلم، قوة فى دين، وحزم فى لين، وإيمان فى يقين، وعلم فى حلم، وكيس فى رفق، وإغضاء فى حق، وقصد فى غني، وتجمل فى فاقة، وإحسان فى قدرة، وصبر فى شدة، لا يغلبه الغضب، ولا تغلبه شهوة، ولا تفضحه بطنه، ولا يستخفه حرص، ولا تعصر به نية، فينصر المظلوم، ويرحم الضعيف، ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر، ويغفر إذا ظلم ، ويعفو عن الجاهل ، نفسه منه عناء، والناس منه فى رخاء. قال أكثم حكيم العرب: ذللوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموا على خُلق تذمونه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتحلوا بالجود يلبسكم المحبة، واحترزوا من البخل فإنه يورثكم البُغضة. وقال أحد الحكماء: إن السعة سعة الخلق لا المال ، وإن الفقر فقر الخلق لا العيش. وقال آخر: لا تصحبن خمسة ولا تتخذهم لك إخواناً: الفاسق فإنه يبيعك بأكلة فما دونها، والبخيل فإنه يخذلك بماله وأنت أحوج ما تكون إلى معونته، والكذاب فإنه كالسراب يبعد عنك القريب ويدنى البعيد، والأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وقاطع الرحم فإنه ملعون فى كتاب الله. يقول الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله: لذة العابدين فى المناجاة، ولذة العلماء فى التفكير، ولذة الأسخياء فى الإحسان، ولذة المصلحين فى الهداية، ولذة الأشقياء فى المشاكسة، ولذة اللئام فى الأذى، ولذة الضالين فى الإغواء والإفساد” (شبكة فلسطين الدعوية، بتصرف).

الهوي المتبع:

            الهوي يطغي ويردي ويفسد؛ لأنه يبعد الإنسان عن العدل والإنصاف، ويجعله أسيراً لرغبات النفس ونزغات الشيطان ودواعي المعصية؛ وبذلك يصبح عبداً لهواه لا عبداً لمولاه. والهوي مرتبط دائماً بالحيف والظلم والجور والعدوان والطغيان؛ وهذا الترابط شديد الوضوح في آيات القرآن الكريم حيث يتلازم الأمر بالعدل في الحكم مع النهي عن اتباع الهوي.

قال تعالي: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص:26) وقال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء:135) وقال تعالي: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة:48-49) وقال تعالي: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ (الشوري:15)

ومن الآيات التي تؤكد أن الهوي يردي صاحبه؛ فيورثه النار وغضب الجبار قوله تعالي: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ (النازعات37-41) وقوله تعالي: ﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ*حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ* فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ*خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ (القمر:3-7). ولذلك أمر الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم أن يتمسك بشريعة الله المستقيمة الحكيمة الرحيمة العادلة بعيداً عن أهواء البشر قليلي العلم والحكمة. قال تعالي: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (الجاثية:18-19). وذلك لأن شريعة الله واضحة مستقيمة وأهواء الناس ملتوية ملتبسة ولا يستويان أبداً. ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ (محمد:14) واتباع الهوي يفسد النفس الإنسانية كما يفسد الحياة والأحياء. ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون:71). وقد اقترن اتباع الهوي بافتقاد العلم أو افتقاد التقوي أو افتقادهما معاً. قال تعالي: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾)الأنعام:119)، وقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّه﴾ )القصص:50)﴿بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾(الروم:29).

وفي السنة المطهرة عن عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمُ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»(حسن صحيح عند النووي(. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوىً مُـتَّـبَـعًا وَدُنْـيَا مُؤْثَـرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنكَ أَمْرَ الْعَامَّـةٍ » (حسنه الترمذي وصححه ابن حبان).

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه ، فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء ، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح “. وقال بن عباس رضي الله عنه: “لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب” وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: “لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب وتسلب محاسن الوجوه وتورث البغضة في قلوب المؤمنين”، وقال الحسن البصري رحمه الله: “لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم”، وقال أبو قِلابة رضي الله عنه: “لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون”. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: “إن جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وكذلك البدع تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فيجب عليه حينئذٍ التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلِّها”(جامع العلوم والحكم).

إعجاب كل ذي رأي برأيه:

الآفة الثالثة من الآفات المهلكات المذكورة في الحديث هي إعجاب كل ذي رأي برأيه، وأساسها العجب والكبر فالعجب يحمل الإنسان علي أن يرفع نفسه فوق ما يستحق، والكبر يحمله علي احتقار الآخرين والحط من منزلتهم التي يستحقونها. والمصاب بهذه الآفة لا يري في نفسه إلا الجانب الحسن ويضخمه، ولا يري في الآخرين إلا الجانب السيء ويضخمه كذلك؛ ولذا فهو يعذر نفسه دائماً ولا يعذر الآخرين أبداً. قال القرطبي: “إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظة لها بعين الكمال، مع النسيان لنعمة الله”(تفسيرالقرطبي) والعجب والكبر يصرف صاحبة عن التماس الحق وعن قبوله إذا استبان له فهما يؤديان إلي الجحود ؛ فقد وصف لنا القرآن الكريم حال فرعون وقومه عندما استبانت لهم الآيات: “وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً” والمتكبر يفضل الهلاك علي قبول الحق والانصياع للدليل الواضح والبرهان الناصع وهذا ما ذكره القرآن عن مشركي مكة في قولهم للرسول صلي الله عليه وسلم: “اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم” وإذا كان كبر المتكبرين وإعجابهم بأنفسهم يصرفهم عن قبول الحق واتباع الهدي فإن الله العليم الخبير الحكم العدل يجازيهم من جنس عملهم ويمدهم في غيهم ويعينهم علي ما اختاروه لأنفسهم من الضلال والانصراف عن الهدي. قال تعالي: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف:146) ولذلك فقد توعد الله تعالي المتكبرين فقال سبحانه: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الجاثية:7، 8). والكبر والعجب أخرج إبليس من الجنة، وأغلق عليه باب التوبة، وجلب عليه اللعنة، وأورثة الخلود في النار قَالَ (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) (الأعراف:13) وكذلك كل متكبر، فالكبر يورث الكفر والكفر يستوجب النار. قال تعالي يخاطب الكفار: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحل:29) فالكبر علة كفرهم الذي استحقوا به الخلود في النار.

وفي السنة المطهرة: «ما يزال الرجل يذهب بنفسه ـ أي: يترفع ويعجب بها ـ حتى يكتب في الجبارين، فيصيبُه ما أصابهم» (رواه الترمذي)، وقال صلي الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مُرَجِّلٌ جُمَّتَه إذ خسف الله به، فهو يتجلجل ـ أي: يغوص في الأرض ـ إلى يوم القيامة»(رواه أبو داود والترمذي)، قال الأحنف بن قيس: “عجبًا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين”.وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولُسَ، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال»(حديث حسن رواه الترمذي). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: “إن الله جميل يحب الجمال، الكبْر بطر الحق وغمط الناس» (رواه مسلم).

تطبيقات عملية:

  • الهوي المتبع : قيم نفسك في هذه المرض – ابحث عن العلاج – ناقش ذلك مع إخوانك

  • إعجاب المرء برأيه آفة قد تصيب الملتزمين- يقوم القائد الثوري بمناقشة ذلك مع إخوانه ويحثهم علي ضرب أمثلة من الواقع القريب

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. من تراث الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *