الخميس , أكتوبر 9 2025
الرئيسية / إسلاميات / الحلقة الثامنة : دروس من غزوة أحد

الحلقة الثامنة : دروس من غزوة أحد

الحلقة الثامنة: دروس من غزوة أحد 2/3/2015

الافتتاحية: من سورة آل عمران:137-148

 

قال تعالي: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ *وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران:137-148)

يقول الدكتور وهية الزحيلي في التفسير الوسيط : “انظروا أيها المسلمون في الماضي والحاضر إلى من سبقكم من الأمم، وتعرفوا على أخبار الماضين، فستجدون منهجا واحدا لا يتغير، وطريقا واحدا لا يتخلف، وهو إن سرتم سير الطائعين الموفقين، نجحتم، وإن سرتم سير العصاة المكذبين خسرتم، إنكم سلكتم طريقا معتدلا يوم بدر فانتصرتم، وسلكتم طريقا خطأ بمخالفة نبيكم يوم أحد فانهزمتم. وهكذا كل ما نتعرض له من هزائم إنما هو بسبب من أنفسنا. وإياكم أيها المؤمنون من الوهن والضعف بعد الانهزام في أحد وغيرها، ولا تحزنوا على ما حدث، ولا على من قتل، فإن يمسسكم قتل وجراح، فقد مسّ غيركم مثله، فشهداؤكم مكرمون عند الله، وما وقع للأعداء ليس نصرا، ولكنه درس بليغ تتعظون به، لما في تلك المعركة من تربية وعظة وعبرة، أهمها أن مخالفة أمر النبي خروج على سنة الله في تحقيق الظفر. ولا يصح لكم أيها المؤمنون أن تضعفوا أو تحزنوا أو تستسلموا للوهن والحزن، فأنتم الأعلون بمقتضى سنة الله في جعل العاقبة للمتقين، وعلو كلمة الإسلام، وقتلاكم في الجنة، وقتلاهم في النار، فالحرب سجال والأيام دول نداولها بين الناس، فنجعل للباطل دولة في يوم، وللحق دولة في أيام، والعاقبة والنصر في النهاية للمتقين الصابرين. والمعارك وساحة الحياة ميدان للاختبار والامتحان، ففيها يعلم الله علم مكاشفة وظهور، لا العلم الطارئ بعد الجهل، لأن علم الله سابق ومطابق للواقع لا يتغير، فالله يعلم الذين يؤمنون من الأزل، ثم يظهر في الوجود إيمانهم في الواقع، ويكرّم أناسا بالشهادة والقتل في سبيل الله، وللشهادة درجة عظيمة عند الله والناس، وفي هذه المحن العصيبة يمحّص وينقي الله الذين آمنوا، ويظهر الإيمان الخالص من الإيمان المشوه، ويتضح في الواقع المشاهد إيمان الذين قد علم الله أزلا أنهم يؤمنون، وذلك حتى تصفو النفوس، وتستعد للعودة إلى الطريق الأسلم وخوض معارك ناجحة، يتم بها محق الكافرين أو ذهابهم شيئا فشيئا، وانتصار المؤمنين وتنقية المخلصين وتمييزهم عن المنافقين، وعلى هذا إذا انتصر الأعداء طغوا وبغوا، فيكون هلاكهم مرة واحدة، وإذا انهزموا ضعفوا وهلكوا شيئا فشيئا وأبيدوا، والعاقبة في النهاية للمتقين. والخلاصة: إن اتخاذ الأسباب المهيئة للرزق والنصر مثلا أمر متفق مع مبدأ الإيمان بقدرة الله الشاملة في إيجاد ما يشاء لأن الله يريد للناس أن يثبتوا ذاتيتهم، ويظهروا أعمالهم، ليتميز المحسن من المسيء، والمجاهد من المتقاعس، والقوي من الضعيف، وإذا كنا نريد أن يتحقق كل شيء بأمر الله التكويني كُنْ فَيَكُونُ فذلك إلغاء لوجود الإنسان، وإهمال لدوره وفعاليته في الحياة

ولا يصح لكم أيها المؤمنون أن تصابوا بداء الغرور، فتفهموا أن دخول الجنة يكون من غير جهاد في سبيل الله، وصبر. ثم عاتب الله بعض المؤمنين الذين يعتمدون على الأماني ، فلقد تمنى المتخلفون من المؤمنين يوم بدر حضور قتال المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، لينالوا منزلتهم العالية، فلما جد الجد، وجاء يوم أحد، واحتدمت المعركة، لم يصدق كل المؤمنين في القتال، وتوانوا وقصّروا، وانحازوا إلى الجبل والرسول يدعوهم إلى الصمود والقتال، فلا يجيبه أحد. قال الحسن البصري: بلغني أن رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون، أي يوم بدر: لئن لقينا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفعلن ولنفعلن، فابتلوا بذلك أي يوم أحد، فلا والله ما كلهم صادق، فأنزل الله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وفي غزوة أحد أشيع خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعض المنافقين: لو كان نبيا ما قتل، من لنا برسول إلى عبد الله بن أبي (زعيم المنافقين) ليأخذ لنا الأمان عند أبي سفيان؟ وتبرأ أنس بن النضر إلى الله من مثل هذا الكلام، وجعل يقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين، وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن مناصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فعاتبهم الله بقوله: وما محمد إلا رسول كغيره من الرسل السابقين، إن مات كموسى ، أو قتل كزكريا ويحيى، فإن ديانتهم بقيت كما هي، وتمسك أتباعهم بها، فالمعقول والمطلوب أن تظلوا مؤمنين مجاهدين مخلصين كما كنتم، ثابتين على المبدأ ولو مات أو قتل، عاملين بمضمون رسالته على الدوام، فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء، يموت كما مات الرسل قبله، وله في الدنيا مهمة مؤقتة تنتهي بانتهاء أجله، والله باق دائم، فمن كان يعبد الله فإن الله حي باق، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن يرتد عن دينه، فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه، ومن ثبت على دينه فهو من الصابرين المجاهدين الشاكرين، وسيجزيهم الله جزاء حسنا على ثباتهم والتزامهم دين الله. إن العتاب الإلهي لون من ألوان التربية والإعداد والتصحيح، وذلك دليل من الله على محبته لعباده وإرادته الخير لهم، فإذا أخطئوا لم يسكت الله على الخطأ، وإن قصروا نبههم لما فيه صلاحهم، حتى يبادروا للعمل البنّاء من جديد، بروح قوية، وعزيمة صادقة، وجرأة وشجاعة نادرة، وإيجابية لا تعرف التقهقر أو التردد، وهذا سبيل العزة والكرامة، وتحقيق الغايات الكبرى”(التفسير الوسيط، بتصرف).

دروس مستفادة من الآيات:

  • لله عز وجل سنن عامة في النصر والهزيمة يجريها علي الأنبياء والصالحين كما يجريها علي الكفار والمفسدين.

  • الأيام دول فإذا كان اليوم لك فلا تبطر ولا تتكبر، وإن كان اليوم عليك فلا تجزع ولا تهن ولا تتضعضع.

  • اعرفوا الرجال بالحق ولا تعرفوا الحق بالرجال، وارتبطوا بالمبادئ لا بالأشخاص، واقتدوا بمن مات فلا تؤمن علي حي فتنة.

  • ………………………….أذكر دروساً أخري.

مقدمة

لقد منَّ الله عز وجل علي المسلمين بالنصر يوم بدر وهم علي حالهم المعروفة من القلة والذلة، ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (آل عمران:123) فدخل بعض الناس في الإسلام عن غير إيمان ولكن مداراة للقوة الصاعدة الواعدة، فأراد الله تعالي بحكمته ورحمته أن يميز صفوف المؤمنين، ويظهر خبيئة المنافقين، ويفضح زيف الأدعياء والنفعيين﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران:179) فكانت غزوة أحد التي ظهرت فيها المعادن، وانكشف فيها الزيف، وافتضح فيها النفاق وأهله، وأنزل الله تعالي في أعقابها ثمان وخمسين آية من سورة آل عمران، وصفت هذه الآيات المعركة وصفاً دقيقاً، وسلطت الضوء على خفايا الضمائر، ودخائل النفوس والقلوب، لتكون معيناً لا ينضب لتربية الأمة في كل زمان ومكان، ودروساً بليغة في صناعة الرجال وصناعة النصر تتوارثها الأجيال، وهذه بعض الفوائد والدروس المستفادة من هذه الغزوة العظيمة.

الطاعة حصن الجماعة:

لا شك أن طاعة الله تعالي باتباع أوامره واجتناب نواهية وكذلك طاعة القيادة سبب مباشر من أسباب النصر في أي معركة عسكرية أو غير عسكرية، ولذا فإن طاعة القيادة المؤمنة في المعروف أمر واجب وعصيانها يجلب الهزائم، كما أن شيوع التنازع والخلاف المفضي إلي الفشل في الصف المسلم ينتهي به إلي الضعف والتحلل وسقوط المنزلة ونزول المكانة وذهاب الريح وزوال الأثر. “ففي غزوة أحد ظهر أثر المعصية والفشل والتنازع في تخلف النصر عن الأمة، فبسبب معصية واحدة خالف فيها الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبسب التنازع والاختلاف حول الغنائم ، ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه، ولاحت بوادره، فقال سبحانه: ﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم ( آل عمران 152 )، فكيف ترجو أمة عصت ربها، وخالفت أمر نبيها، وتفرقت كلمتها أن يتنزل عليها نصر الله وتمكينه؟. وهذه الغزوة تعلمنا كذلك خطورة إيثار الدنيا على الآخرة، وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله ونصره وتأييده، قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد ﴿منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، وفي ذلك درس عظيم يبين أن حب الدنيا والتعلق بها قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفى عليهم ذلك، فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقد نفسه وأن يفتش في خباياها، وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه. قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران:165) ظهر هذا الدرس في مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قلب الموازين وأدى إلى الهزيمة، فالمسلمون انتصروا في بداية المعركة حينما امتثلوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ، بينما انهزموا حينما خالفوا أمره. ومن ثم ينبغي أن يُعْلَم أنه وإن كان إعداد العدة والعدد مطلبا شرعيا، إلا أن النصر والهزيمة لا يتوقفان عليهما، فبالمعاصي تدور الدوائر، فقد فاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب معصية، وكم في التاريخ من حضارات كثيرة محيت بسبب الذنوب والمعاصي . فالمعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا أشقتها، وهي من الأسباب الرئيسية للهزيمة في الحروب، ومن ثم ينبغي الحذر منها والبعد عنها”(إسلام ويب، بتصرف).

ميدانكم الأول أنفسكم:

قال الله تعالي: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل عمران:133-135). والمسارعة إلي مغفرة الله وطلب رضوانه وتقواه والجهاد المالي وكظم الغيظ والعفو عن المقدرة والإحسان إلي خلق الله وعدم الإصرار علي الذنب والإسراع إلي التوبة والاستغفار عند الكبوة والإلمام بذنب كبير أ و صغير.. كل ذلك يندرج تحت جهاد النفس، ولا عجب أن تأتي هذه التوجيهات في سياق الحديث عن غزوة أحد بين المسلمين والمشركين لأن هذه التوجيهات هي عدة النصر الحقيقية. فإن انضباط الصف المؤمن بالمنهج من أعظم عوامل النصر. وكيف ينتصر المسلمون علي غيرهم إن لم ينتصروا علي أنفسهم؟. إن مجاهدة النفس هي الميدان الأول للجهاد يقول المرشد الثاني حسن الهضيبي رحمه الله: “أيها الإخوان ميدانكم الأول أنفسكم فإن انتصرتم عليها كنتم علي غيرها أقدر وإن عجزتم دونها كنتم عن غيرها أعجز” وقال أيضاً: “أيها الإخوان: إن الله جعلكم جنودًا لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله، وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعدًا دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم، فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح أعجزُ من أن ينتصرَ مع غيره في معركة السلاح” (مجلة الدعوة، 1397هـ).

الشوري روح العمل:

قال الله تعالي﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159). “إنه لمن الملفت للقلب والعقل أن يأتي الأمر بالتزام الشوري كنظام في الجماعة المسلمة في سياق الحديث عن غزوة أحد والتي انتهت بالهزيمة والتي حصد المسلمون من نتائجها عددا كبيرا من الشهداء والجرحي . إن النظرة المتعجلة تربط سريعا بين الشوري وبين تلك النتائج المريرة وكأن الشوري هي التي جلبت تلك النتائج ولكن النظرة العميقة تنتهي إلي أن الشوري لاغني عنها مهما كانت نتائجها. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “لقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة. أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ مهما يكن الخطأ جسيماً وذا نتائج مريرة لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائياً، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود محمد صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة”(في ظلال القرآن).

الارتباط بالمبادئ لا بالأشخاص:

كانت الصدمة مزلزلة عندما شاع الخبر الخطير بموت النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم في غمار غزوة أحد وقد حمي الوطيس؛ ففر كثير من المسلمين علي إثر هذه الشائعة، فنزل قول الله تعالي﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران: 144) يعلم المسلمين أن يرتبطوا بالله الباقي ودينه الخالد لا بشخص الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم لأنه بشر يجري عليه قدر الله في الحياة والموت. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إن محمداً رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله. والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل. إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ. هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت”(في ظلال القرآن). فلو ارتبط الإسلام بشخص محمد صلي الله عليه وسلم لمات الإسلام بموته، ولكن المبادئ الدائمة لا ترتبط بالأشخاص الزائلين. وهذا ما ذكر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه الصحابة الكرام وعلي رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند إعلان خبر وفاته صلي الله عليه وسلم، قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت ثم تلا الآية الكريمة فقال عمر رضي الله عنه: كأنني أسمعها أول مرة، وكل دعوة ترتبط بالأشخاص تحيا بحياتهم وتموت بموتهم وتمرض بمرضهم وتنحرف بانحرافهم، وكل دعوة ترتبط بالأهداف النبيلة والمبادئ السامية فإنها تمضي في طريقها غير عابئة بمن رحل عنها أو تنكب طريقها أو انحرف عن مسارها حتي تبلغ منتهاها وتصل إلي غايتها.

موتوا علي ما مات عليه رسول الله:

من التطبيقات العملية الواضحة للارتباط بالمبادئ لا بالأشخاص موقف سيدنا أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد “عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء – يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء – يعني المشركين – ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: ﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليهإلى آخره”(متفق عليه). قال ابن إسحاق رحمه الله: “حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بني عدي ابن النجار قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقَوْا بأيديهم، فقال: ما يجُلسكم؟ قالوا: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل، وبه سُمي أنس بن مالك“(سيرة ابن اسحاق).

لقد “نظـر أنس بن النضر نظرة مختلفة فإن كان رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مات وهو الحق، ونحن نوقن أنه الحق، فلنمت على الحق الذى مات عليه، ما الذي يقعدنا.. أليس هو رسول الله؟ ألم يمت في سبيل الحق؟ فلنفعـل كما فعـل ولنمت كما مات!!لقــد قال أنس بن النضر تلك الكلمات وهو يعلم في داخله أن النبي قد قتل في المعركة، وأن الهزيمة قد حانت، وأن رسالة الإسلام ضربت ضربة قاسية، فقال ذلك القول دون تردد. فلماذا يقاتـل ويحارب وهو يعلم أنه لن يعود؟! لماذا توغل في صفوف الكافرين وهو لا يحمل أملًا للنصــر في عقله؟ إنما كان قوله: موتوا على ما مات عليه رسول الله… لقد استشهد رضى الله عنه ولم ير النصـر بعينه، ولم ير عز الإسلام والمسلمين، ولم ير الفتوحات، ولم يعلم حتى أن رسول الله لا زال حيـًّا.. وإنما علم أن هذا هو الطـريق.. فمات على الطريق.. فإن الأصــل هو الموت على الطريق، لا رؤية النصـر بالعين، ففرصة المجاهد للموت أقرب من الحيـاة، وإنما اليقين في الطريق، والموت عليه “(عبد الرحمن الشافعي، ساسة بوست، بتصرف).

الصمود طريق النصر:

قال الله تعالي: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران:172) يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إنه نداء عسير يأتي في وقت عصيب؛ إذ ينادي النبي في المسلمين العائدين من المعركة، المثخنين بالجراح، الناجين بشق الأنفس، المحملين بمرارة الهزيمة وشدة الكرب. يناديهم للخروج كرة أخري لمطاردة المشركين العائدين إلي قريش.. يناديهم وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا وقل عددهم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال فاستجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي دعوة الله كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك فاستجابوا بهذا لله والرسول «مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ» ، ونزل بهم الضر، وأثخنتهم الجراح. فأي صمود وربي هذا الصمود. إنه الصمود الذي تهتز أمامه الجبال. إنه الصمود الذي يحيل الهزيمة نصرا ويكسر اليأس في النفوس كسرا. إنه الصمود الذي حطم أسوار الهزيمة وداس علي آلام الجراح .. فما عادت بعده معركة أحد بما فيه من المصائب والآلام إلا جولة من الجولات مضت بمرارتها وهم أمام جولة جديدة لمطاردة الأعداء.. إنه الصمود الذي حطم زهو المشركين بانتصارهم .. فهاهم المسلمون يطاردونهم .. فما غدي انتصارهم حاسما .. بل واستحالوا أمام هذا الصمود كالفارين”(في ظلال القرآن، بتصرف).

تطبيقات عملية:

  • كل فرد في الأسرة يقيم دوره فيها ومدي التزامه به ……الأسرة كلها تقيم دورها فيها ومدى التزامها به فى جو من الصراحة والوضوح مع التركيز علي التجارب الناجحة

  • الأصــل هو الموت على الطريق، لا رؤية النصـر بالعين، ففرصة المجاهد للموت أقرب من الحيـاة(قوموا فموتوا علي ما مات عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم) راجع هذا الدرس بينك وبين نفسك

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. من تراث الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *