الحلقة السادسة : الوصفة الربانية لمواجهة الباطل
11 فبراير، 2016
إسلاميات, تربوى
1,544 زيارة
الحلقة السادسة : الوصفة الربانية لمواجهة الباطل
الافتتاحية : الأنفال 45-46
قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:45-46).
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: “أَمَرَ تَعَالَى المؤمنين بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِ الْأَعْدَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُبَارَزَتِهِمْ، فَلَا يَفِرُّوا وَلَا يَنْكُلُوا وَلَا يَجْبُنُوا، وَأَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَلَا يَنْسَوْهُ بَلْ يَسْتَعِينُوا بِهِ وَيَتَّكِلُوا عَلَيْهِ، وَيَسْأَلُوهُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي حَالِهِمْ ذَلِكَ. فَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ائْتَمَرُوا، وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ انْزَجَرُوا، وَلَا يَتَنَازَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْضًا فَيَخْتَلِفُوا فَيَكُونَ سَبَبًا لِتَخَاذُلِهِمْ وَفَشَلِهِمْ. ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أَيْ: قُوَّتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْإِقْبَالِ، ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.وَقَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -فِي بَابِ الشَّجَاعَةِ وَالِائْتِمَارِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَامْتِثَالِ مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ -مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، فَتَحُوا الْقُلُوبَ وَالْأَقَالِيمَ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُيُوشِ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَالتُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ وَالْبَرْبَرِ والحبُوش وَأَصْنَافِ السُّودَانِ والقبْط، وَطَوَائِفِ بَنِي آدَمَ، قَهَرُوا الْجَمِيعَ حَتَّى عَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَظَهَرَ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَامْتَدَّتِ الْمَمَالِكُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ”(تفسير القرآن العظيم، بتصرف).
يقول الدكتور وهبة الزحيلي: “هذه الآيات تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء، وهي قواعد ضرورية في الحروب، وأسس للجندية الحقة الحازمة. وأول هذه الآداب والقواعد: الثبات أمام العدو حين اللقاء معه، بتوطين النفوس على الصمود والصبر على المبارزة وعدم التحدث بالتولي والفرار، ونظرا لأن هذا العنصر أهم عناصر المواجهة الحربية، فقد بدأ الله به، فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ أي إذا حاربتم جماعة من أعدائكم الكفار، فاثبتوا أمامهم في القتال، وإياكم من الفرار من الزحف وتولي الأدبار، فالثبات ركيزة الحروب وسبب للانتصار، والفرار جريمة كبري يعاقب عليها الله تعالى لأنها خطأ فادح في حق الأمة قاطبة. والأدب الثاني: هو ذكر الله كثيرا: بذكره في القلب وباللسان، والتضرع والدعاء بالنصر والظفر؛ لأن النصر لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، وذكر الله في أثناء القتال يحقق معنى العبودية لله، ويشعر بمعنى الإيمان والتفويض لله والتوكل عليه، ويقوي الروح المعنوية، فبذكره تطمئن القلوب، ويؤمّل النصر والفرج، وبدعائه تتبدد الكروب والمخاوف، ويحلو الموت في سبيل الله عز وجل… ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي هذا الثبات وذكر الله من وسائل الفوز بالأجر والثواب، والنصر على الأعداء.جاء في الحديث المرفوع: يقول الله تعالى: «إن عبدي كل عبدي: الذي يذكرني، وهو مناجز قرنه» أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي، فذكر الله تعالى، وعدم نسيانه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله النصر على الأعداء، بعد الثبات والصمود والصبر أساس لتحقيق الفوز والغلبة. وهذا يدل على أن ذكر الله أمر مطلوب في كل أحوال العبد، سلما وحربا، صحة ومرضا، إقامة أو حضرا وسفرا. والأدب الثالث: هو الطاعة: طاعة الله والرسول في كل ما أمر العبد به ونهي عنه، فما أمرنا الله تعالى به ائتمرنا، وما نهانا عنه انزجرنا لأن طاعة الله ورسوله من أسباب تحقيق الفوز والنصر في القتال وغيره، ولأن الطاعة تحقق الانضباط، وتوفر النظام، وتقمع الفوضى والتشتت، وظرف الحرب يقتضي الانضباط واحترام النظام وحبّه في أعلى مستوى وأكمله. والأدب الرابع: هو وحدة الصف والكلمة والهدف، وعدم التنازع والاختلاف، فإن توحيد الصف والكلمة أمر أساسي عند لقاء العدو، والتنازع والاختلاف مدعاة للفشل والجبن والخيبة وتغلب العدو. فإياكم والتنازع لأنه مهدر للطاقات، ومقوّض لبنية الجماعات، وسبيل لإذهاب الحماسة، وتبديد القوة، والعصف بوجود الدولة، وإزالة روح الإقبال والإقدام، فلقد هلكت الأمم باختلافها وكثرة آرائها واعتراضاتها. والأدب الخامس: الصبر على الشدائد والمحن، وتحمل بأس العدو، فإن الصبر سلاح القوي المقدام، لذا قيل: الشجاعة: صبر ساعة، والله مع الصابرين يمدهم بالعون والتأييد والنصر. والخلاصة: تتضمن الآداب السابقة قواعد حربية ثابتة أساسها الإخلاص في القتال في سبيل الله وكثرة ذكر الله لربط الجيش بربه”(التفسير المنير).
دروس مستفادة من الآيات:
• التنازع يؤدي إلي الفشل وذهاب الريح، وإدبار الأمر وزوال الملك، وتسلط العدو.
• الثبات والذكر والطاعة ووحدة الصف والصبر والإخلاص من أداب مواجهة العدو ومن أسباب النصر والظفر.
• ………………………..أذكر دروساً أخري.
الثبات:
لا شك أن الثبات عند لقاء العدو، وعدم الانهزام والفرار أمامه وترك الميدان له من أهم عوامل النصر وهو العنصر الأول من عناصر الوصفة الربانية لمواجهة العدو وتحقيق النصر عليه بإذن الله، فقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في جميع معاركه التي خاضها، كما فعل في بدر، وأحد، ويوم حنين ثبت وقد تراجع بعض المسلمين وكان يقول: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك”( متفق عليه)، وهو صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأسوتنا الحسنة قال الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21)، وثبت أصحابه من بعده رضي الله عنهم, فعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا أيها الناس، لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف”(متفق عليه). ومن صور ثبات الصحابة في مواجهة العدو ما ورد “عن أنس رضي الله عنه، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إنِّي أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس كنا نرى، أو نظن أنَّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾”(رواه البخاري ومسلم).
الذكر:
ذكر الله تعالي حياة القلوب »مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّت) « متفق عليه)، وهو العنصر الثاني من عناصر الوصفة الربانية لمواجهة العدو وتحقيق النصرعليه بإذن الله تعالي؛ فذكر الله سبحانه سبب الفلاح: قال تعالي: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال: من الآية45). وذكره سبحانه يقلل هيبة الظالمين في قلب المؤمن ويعينه علي الجهر بالحق في حضرة السلطان الجائر ولذلك أوصي الله تعالي موسي وهارون عليهما السلام بذكر الله عندما كلفهما بدعوة فرعون: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ )طه: 42( وذكر الله تعالي يجعل المؤمن في معية الله تعالي ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: 152وفي الحديث القدسي» :يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ)« أخرجه مسلم)، وهذه المعية معيَّة القرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق،وقد »كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ« (متفق عليه)، وذكر الله في مواطن الشدة ومنها لقاء العدو يطرد وساوس الشيطان الذي يخوف أولياءه من عقل المؤمن وقلبه. قال تعالي: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 175)وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾، وذكر الله يسكب السكينة في قلب المؤمن ويكسبه رباطة الجأش والشجاعة ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).
الطاعة:
طاعة الله ورسوله بفعل أوامره واجتناب نواهيه هو العنصر الثالث من عناصر الوصفة الربانية لتحقيق النصر في مواجهة العدو ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46). يقول عبد الظاهر عبد الله: “ويتبع طاعة الله ورسوله طاعة القائد أو ولي الأمر في غير معصية وتاريخ القيادة والتسليم لها في أوامرها لدى الجند المسلمين مضرب الأمثال والتي نتج عنها انتصار أذهل أعدائهم فهم كما قال عليه الصلاة والسلام تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم فلقد كان القادة خير رعاة لجندهم وخير رفقاء بهم وكانوا يشاورون أهل الرأي عند الملمات والأزمات والشورى دستور الأسلام وقاعدة نظام الحكم في دولة الأسلام والقائد كان واحدا من الرعية غير أنه كان أكثرهم مسؤلية عند الله فلم يترفع على جنده ولم يستأثر عليهم بشيء, فكيف لا يطاع وكيف يعصى له أمر” (عوامل النصر في المعارك الإسلامية، صيد الفوائد). ومخالفة القائد أثناء المعركة سبب مباشر للهزيمة وفي غزوة أحد عندما خالف الرماة تعليمات الرسول القائد صلي الله عليه وسلم كانت النتيجة هزيمة مروعة ولما استغرب بعض الصحابة من نزول الهزيمة بهم وهم أصحاب الحق وبينهم رسول الله صلي الله عليه وسلم نزل القرآن يوضح لهم السبب في وضوح وجلاء: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 165). أي بسبب معصيتكم لتعليمات الرسول القائد نزلت بكم الهزيمة.
عدم التنازع:
الحرص علي وحدة الصف والتماسك وعدم التنازع ولقاء العدو صفاً واحداً من أهم أسباب النصر وهو العنصر الرابع من عناصر الوصفة الربانية للنجاح في مواجهة العدو. قال تعالي: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية46) والتنازع المفضي إلي الفشل وذهاب الريح والهزيمة يختلف عن الاختلاف في الرأي والتنوع في الرؤي. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن اختلاف الأفهام واشتجار الآراء ليس بمستغرب فى الحياة، ولكن ليس هذا سبب التقاطع والشقاق. إنما يعود سبب الشقاق إلى انضمام عوامل أخرى. تستغل تباين الأنظار والأفكار للتنفيس عن أهواء باطنة. ومن ثم ينقلب البحث عن الحقيقة إلى ضرب من العناد لا صلة له بالعلم البتة. ولو تجردت النيات للبحث عن الحقيقة، وأقبل روادها وهم بعداء عن طلب الغلب والسمعة والرياسة والثراء؛ لصفيت المنازعات التى ملأت التاريخ بالأكدار والمآسى. وقد لحظنا أن هناك توافه ضخم الخلاف فيها وامتد لأن هذا الخلاف اقترن ابتداء بمنافع سياسية. على حين انكمش الخلاف فى مسائل مهمة، وتُركت وجهات النظر ترسو حيث شاءت؛ لأن نتائج هذا الخلاف نظرية بحتة … ولا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة ودوام دولتها ونجاح رسالتها ولئن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام. إن توحيد الكلمة سرالبقاء فيه، والإبقاء عليه، والضمان الأول للقاء الله بوجه مشرق وصفحة نقية”(خلق المسلم، بتصرف).
الصبر:
وهو العنصر الرابع عناصر الوصفة الربانية لمواجهة الباطل وتحقيق النصر عليه بإذن الله تعالي: يقول الشيخ النابلسي: “الصبر مع الطاعة طريق النصر والقهر مع المعصية ليس بعدهما إلا القبر”(موسوعة النابلسي) ويقول الشيخ محد الغزالي رحمه الله: “إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها؛ فالصبر وحده هو الذى يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط. والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم فى دينه ودنياه، ولابد أن يبنى عليها أعماله وآماله وإلا كان هازلا. يجب أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت بقلب لم تعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كُربة. وقد أكد الله أن ابتلاء الناس لا محيص عنه؛ حتى يأخذوا أهبتهم للنوازل المتوقعة؛ فلا تذهلهم المفاجآت ويضرعوا لها. ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم﴾. ولا شك أن لقاء الأحداث ببصيرة مستنيرة واستعداد كامل أجدى على الإنسان، وأدنى إلى إحكام شئونه، قال تعالى: ﴿وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور﴾ والصبر يعتمد على حقيقتين خطيرتين: أما الأولى فتتعلق بطبيعة الحياة الدنيا؛ فإن الله لم يجعلها دار جزاء وقرار بل جعلها دار تمحيص وامتحان، والفترة التى يقضيها المرء بها فترة تجارب متصلة الحلقات يخرج من امتحان ليدخل فى امتحان آخر قد يغاير الأول مغايرة تامة، أى أن الإنسان قد يمتحن بالشيء وضده مثلما يصهر الحديد فى النار ثم يرمى فى الماء. وهكذا… وأما الحقيقة الأخرى فتتعلق بطبيعة الإيمان: فالإيمان صلة بين الإنسان وبين الله عز وجل، وإذا كانت صلات الصداقة بين الناس لا يُعتد بها ولا ينوه بشأنها إلا إذا أكدها مر الأيام، وتقلب الليالى، واختلاف الحوادث، فكذلك الإيمان لابد أن تخضع صلته للابتلاء الذى يمحصها؛ فإما كشف عن طيبها، وإما كشف عن زيفها. قال الله تعالى: ﴿أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين﴾. ولا ريب فى أن علم الله محيط بظواهر الأمور وبواطنها، وأن هذا الامتحان لم يأت بجديد بالنسبة إلى الكشف الإلهى المستوعب للبدايات والنهايات، غير أن الإنسان لا يُحاسب على ما فى علم الله، بل حسابه على عمله الشخصى، وإذا كان بعض المجرمين سينكرون ما اقترفوا من سيئات، فكيف تقام عليهم الحجة إلا بامتحان تشهده جوارحهم وتنطق به أركانهم?” (خلق المسلم، بتصرف).
ويقول أيضاً: “والصبر من عناصر الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة، فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل. والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله لم يستأجر له أطفالا أو مرضى أو خوارين؛ إنما ينتقى له ذوى الكواهل الصلبة، والمناكب الشداد. كذلك الحياة لا ينهض برسالتها الكبرى، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون؛ ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء مكافئا لما أوتوا من مواهب، ولما أدوا من أعمال… وذلك شأن أولى الفضل من الناس لا يفقدون صفاء دينهم إن فقدوا صفاء دنياهم، ولا يهونون أمام أنفسهم لنكبة حلت بهم وما رأيناه فى سيرالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يؤكد أن عظم المنزلة مع ثقل الأحمال ومعاناة الصعاب. فكأن تكاثر المصائب إشارة إلى ما يُرشح له المرء من خير، وما يُراد له من كرامة. وكثيرا ما تكون الآلام طهورا يسوقه القدر إلى المؤمنين ليصادر ما يستهوى ألبابهم من متع الدنيا؛ فلا تطول خدعتهم بها أو ركونهم إليها. ورب ضارة نافعة، وكم من محنة فى طيها منح ورحمات، والتريث والمصابرة والانتظار خصال تتسق مع سنن الكون القائمة ونظمه الدائمة، فالزرع لا ينبت ساعة البذر، ولا ينضج ساعة النبت، بل لابد من المكث شهورا حتى يجتنى الحصاد المنشود. والجنين يظل فى بطن الحامل شهورا حتى يستوى خلقه، وقد أعلمنا الله عز وجل أنه خلق العالم فى ستة أيام، وما كان ليعجز أن يقيم دعائمه فى طرفة عين أو أقل. وتراخى الأيام والليالى على الناس هو المدى الذى تقتطع منه أعمارهم، وتستبين فيه أحوالهم، وتنضح على لهبه الهادئ طباعهم”(خلق المسلم، بتصرف).
الإخلاص:
الإخلاص أساس القبول والنجاح ورأس كل خير، يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوى البحت؛ فيجعلانه عبادة متقبلة. وإن خبث الطوية يهبط بالطاعات المحضة فيقلبها معاصى شائنة فلا ينال المرء منها بعد التعب فى أدائها إلا الفشل والخسار. وقد يبنى الإنسان قصراً منيف الشرفات، فسيح الردهات، وقد يغرس حديقة ملتفة الأغصان متهدلة الأثمار، وهو بين قصره المشيد، وبستانه النضيد يعد من ملوك الدنيا. بيد أنه إذا قصد من وراء بنيانه وغراسه نفع الناس، كان له فيهما ثواب غير مقطوع …والحق أن المرء ما دام قد أسلم لله وأخلص نيته فإن حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته تحتسب خطوات إلى مرضاة الله، وقد يعجز عن عمل الخير الذى يصبو إليه لقلة ماله أو ضعف صحته ولكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع الحريص على الإصلاح إلى مراتب المصلحين، والراغب فى الجهاد إلى مراتب المجاهدين؛ لأن بُعد همتهم أرجح لديه من عجز وسائلهم.
حدث فى غزوة العسرة أن تقدم إلى رسول الله رجال يريدون أن يقاتلوا الكفار معه، وأن يجودوا بأنفسهم فى سبيل الله غيرأن الرسول لم يستطع تجنيدهم، فعادوا وفى حلوقهم غصة؛ لتخلفهم عن الميدان وفيهم نزل قوله عز وجل: ﴿ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون﴾. أترى أن الله يهدر هذا اليقين الراسخ، وهذه الرغبة العميقة فى التضحية؟ كلا، ولذلك نوه النبى صلى الله عليه وسلم بإيمان أولئك القوم وإخلاصهم. فقال للجيش السائر: «إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر»(رواه البخارى عن أنس رضي الله عنه). إن النية الصادقة سجلت لهم ثواب المجاهدين لأنهم قعدوا راغمين. ولئن كانت النية الصالحة تضفى على صاحبها هذا القبول الواسع فإن النية المدخولة تنضم إلى العمل الصالح فى صورته فيستحيل بها إلى معصية تستجلب الويل ﴿فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون و يمنعون الماعون﴾.إن الصلاة مع الرياء أمست جريمة، وبعد ما فقدت روح الإخلاص باتت صورة ميتة لا خير فيها. إن القلب المقفر من الإخلاص لا ينبت خيراً كالحجر المكسو بالتراب لا يخرج زرعا، والقشور الخادعة لا تغنى عن اللباب الردىء شيئا. ألا ما أنفس الإخلاص، وأغزر بركته. إنه يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة. ويظهر أن تفاوت الأجور التى رُصدت للحسنات من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يعود إلى سر الإخلاص الكامن فى أطواء الصدور وهو ما لا يطلع عليه إلا عالم الغيب والشهادة. فعلى قدر نقاء السريرة، وسعة النفع تكتب الأضعاف. وليس ظاهر الإنسان، ولا ظاهر الحياة الدنيا، هو الذى يمنحه الله رضوانه فإن الله تبارك وتعالى يقبل على عباده المخبتين المخلصين ويقبل منهم ما يتقربون به إليه، أما ما عدا ذلك من زخارف الدنيا وتكلفات البشر فلا قيمة له ولا اكتراث به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم “(رواه مسلم وفي بعض رواياته زيادة وأعمالكم بعد قلوبكم) (خلق المسلم، بتصرف).
تطبيقات عملية :
1- قيم نفسك في هذه الوصفة الربانية- ساعد إخوانك في ذلك واطلب منهم أن يساعدوك.
2- للقائد الثورى ناقش مع إخوانك كيف يظهر كل عنصر من العناصر السابقة في الموجة