جلس متكئا بكليته علي تلك الأرض الصخرية الممدة من تحته، ملتحفا بسقف وحوائط جيرية صاروا هم فقط ندماءه الوحيدين في تلك الزنزانة الانفرادية التي يقبع بها معتقلا في “العقرب”؛ هذا السجن الموحش الذي رأى الانقلابيون أنه جدير بأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين وغيرهم من عقلاء ونوابغ مصر، فقد كانت مكافأة هؤلاء العلماء علي نبوغهم وتفوقهم أن يظلوا مقيدي الحرية في زنازينهم الانفرادية لا يرون فيها إلا وجه السجّان المكفهر المنقبض عندما يرمي لهم بين الفنية والأخري بعضا مما يطلقون عليه تجاوزا صفة الطعام، علي الرغم من أنه لا يكاد يقيم أود طفل صغير، فضلا عن سوء إعداده وفساد أكثره ما يجعل ضره المحتمل أكثر من نفعه.
ومع كل هذا يتحامل هذا الأستاذ الجامعي ويقتات مما يُقدم إليه مضطررا؛ ومرة إثر مرة، اكتشف أن ما يقدم لهم من طعام قد نُزع منه الملح تماما، وذلك رغبة من مضيفيهم في أن يفقدوا ما تحتاجه أجسامهم من مادة “كلوريد الصوديم” كعنصر هام للحفظ علي العظام وحمايتها.
وبالفعل.. بدأ الوهن يدب في أوصاله، تأمل وهو يستند برأسه علي الحائط الصلدا هذا الجير الذي يغطي جدران الغرفة، حيث أدرك سريعا في أن نسبة منه قد تمد جسمه الذابل ببعض من مادة “كلوريد الصوديوم” التي نزعوها عن الطعام عمدا، وبالفعل بدأ يتذوق من جير الغرفة المغطي للجدران شيئا ما، وسمح له أن يمر عبر فمه إلي حلقه فمعدته فجسمه، وهو في ذلك يبتسم في رضا رغم مظنة البكاء والنحيب المؤكد في حالة كتلك..!!
كان يداعب خياله وهو يبتسم تلك الساحة من العراك التي غالبا ما تشتعل في النفس البشرية بين قطفها سريع المنال جميل المذاق سهل الوصول، لكنه سطحي الأثر قليل الأمد مؤقت الزمن مقيد عن الديمومة ومخاصم لمعني البقاء، وبين هذا المرمي البعيد وعر الخطي مشواك السير ولكنه ثري المعني عميق النفع ذكي الأثر سرمدي البقاء وشاطيء لمستقر غريب مؤرق البال كسير الخاطر مدمي القلب والوجدان…!
ميدان المعركة اتسع في نفس الأستاذ الجامعي أكثر وأكثر في جلسته وحيدا في “العقرب” آل له هناك أن يتتبع تلك المعركة ويري كيف سارت به وكيف تسير، تأكد له أنه يتابع في “زنزانته” الموحشة فصلا من هذا العراك الذي يحاول البعض بإيذائه أن يقتنصوا منه هدفا أو علي الأقل يضعوا حدا لوثبات حلمه الراقي الرائق فلا يتطاول في العلياء؛ فإذا به هو يباغتهم بصبره وتجلده فيسدد في مرمي الخصم عدة أهداف فيرقبونها في تعجب واندهاش..
فما باله إذا هو لعق شيئا من الجدران ليتقوي ويقيم أوده، فحينها يذوق مع “الجير” طعما سائغا طيبا لمعاني الصمود وكبرياء الكرامة وأنفة الصراط المستقيم الذي لم يعوجه ضيم، ولم يثنيه حرمان..
نفسها الابتسامة المطمئنة..كانت هناك، ارتسمت علي وجه ذلك الشاب النزيل في نفس “العقرب” وقد سمحوا لأمه بزيارته لبضع دقائق عبر حوائل، ولكن الكلمات لم تكن تكفي الأم أو تروي ظمأ شوقها لفلذة كبدها؛ بل كانت تأمل أن تصافح ولدها يدا بيد، فمشاعرها تبقي أسيرة وسجينة خلف هذه اللوائح الزجاجية التي تتحدث لابنها من خلفها في كل زيارة، وكأن همس الأذنين كفاحا يضيرهم أو يؤذيهم في شيء، أو ربما ظنوا أن جرعة ريه من أشواق أمه لربما تلهب في قلبه مزيدا ومزيدا من الصبر والأمل، خفي عنهم في ظنهم هذا أن الأمل وليد بار في قلوب أصحاب الرسالة يكبر وينضج ويظل وفيا مخلصا؛ فلا الهموم تفتك به ولا الظروف تجبره علي الرحيل أو الهجرة، بل يبقي نديما أليفا يقدم يده فيحتضن كل من يبنوا له هوة يريدون به السقوط فيها فيُفشل الأمل المخطط ويستنقذ حلفائه وأصدقائه فإذا بهم يغافلون الجميع ويرتفعون أعلي..وأعلي..
وفي احدي أيام الزيارة، سمح السجّان للأم حين المغادرة بمصافحة ابنها؛ فتح لها الباب الزجاجي للمرة الأولي لتري فلذة كبدها دون حوائل، بكل ما تملك من قوة فتحت الأم عينيها بشدة، حاولت أن تتسع بحدقتيها قدر الإمكان وكأن اللحظة وضّاءة شديدة الوهج بحيث لا تتحمل عينيها الضعيفتين شدة الضوء، وقعت عينيها وهي تغلقهما حينا وتفتحهما حينا وتمسح دمعهما أكثر الوقت وقع نظرها علي تلك الحلوي الصغيرة التي في يدها، فتحتها علي عجل ووضعتها في حين غفلة من السجان في فم ولدها فهو في نظرها هذا الطفل الذي شبّ بالأمس فقط، ولربما رأته قد اشتاق لمذاق الحلوي في سجنه الطويل، فليلتقط منها تلك القطعة سريعا، فلربما نجحت في أن توقظ في ذاكرته لذة من ريّ الحياة الهنيئة التي يحرمونه منها؛ أقبل الشاب علي يدي أمه لا ليلتقط الحلوي فقط، وإنما ليقبل هاتين اليدين الحانيتين اللتين تمتدان دوما بكافة معاني الرحمة والحب ولا تعرفان سوي العطاء بلا ثمن..
لم تشفع دقة اللحظة ومشاعرها الجمة في أن تذيب القسوة من قلب السجّان؛ فقد هاله المشهد لا ليتأمل فيه الأمومة الحانية والبنوة البارة، وإنما أشعل جمرة في قلبه رؤيته لتلك الحلوي التي أدخلتها الأم الحنون خلسة دون أن يفطن لها الجنود إبان التفتيش، فكيف لهذه الحلوي أن تمر هكذا، حتي تصل إلي فم الشاب المحكوم عليه من قبلهم بألا يتذوق سوي المُر والعلقم وألا يرتشف سوي نبع الحنظل ونقع أشجار الخريف اليابسة..
وعلي حين غرة..امتدت يدي السجان لتضع حدا لهذا المشهد الحاني؛ قرر بما أوتي في قلبه من قسوة وما تعلمه من غلظة وجفاء طبع أن يكتب نهاية لحيظات الطمأنينة التي يعيشها الشاب بين يدي أمه، وأن يقطع عليه لذة تذوقه لطعم حلو ربما أيقظ في نفسه نشوة لأمل جديد..
مدّ السجان يديه وخطف الحلوي من يدي الأم، وتعالت صرخاته لتعلن عظيم العقاب علي كل من تسبب في وصول قطعة الحلوي تلك إلي فم الشاب..
مسحت الأم دموعها بسرعة، وانصرفت قبل أن تتسبب في مزيد من التنكيل لابنها الشاب؛ قبلت أن يقع عليها هي العقاب، وأن تغادر سريعا دون وداع أو مصافحة ابنها أو حتي دون حديث طمأنة العين للعين..وهنا ارتسمت تلك البسمة الحانية المطمئنة علي وجه الشاب المحتسب..فقد تسرب إلي روحه نفس هذا الشعور بالرضا والذي عرفه نديمه القابع في الزنزانة الموحشة..
لم يفقه السجانون سوي الحرمان من المذاق الذي يعرفوه وهو القريب المادي المحسوس؛ غاب عنهم معني لمذاق آخر يبقي له أثر في
النفس فيطبع الإلطاف والطمأنينة علي الجسد فيخفف بلسمة ساحرة أناّت الحرمان وعذابات التأوه والكدر، كان تحسس المذاق القيمي العلوي والفطنة إلي كنه الحرية الحقة، كفيلا بأن يمتع صاحبه وأن ينزل في نفسه هناءة كل جميل عذب مستطاب فيرتشف منه الكؤوس الشهية المترعة حتي وإن كان نزيلا في قبو موحش محاطا بالقلوب الفظة والحوائط الصخرية ..!!