الجمعة , أكتوبر 10 2025
الرئيسية / مقالات / عودة الأتراك إلى الصدارة بجدارة بقلم: د. محمد مختار الشنقيطي

عودة الأتراك إلى الصدارة بجدارة بقلم: د. محمد مختار الشنقيطي

منذ أكثر من ستة قرون لاحظ عالِم الاجتماع وفيلسوف الحضارة عبد الرحمن بن خلدون(1332-1406م) أن الأتراك جددوا نضارة الحضارةالإسلامية بعد أن أبْلتها القرون، وقعدت بهاالنخب الممسكة بزمام الدولة العباسية، حينتخلَّت عن معاني الرجولة والقوة، وأدمنت الترفوالخمول. ثم رمتها الأمم عن قوس واحدة، منالمغول في الشرق إلى الصليبيين في الغرب، ونخرعظامَها الفكرُ الباطني.
وقد وجد ابن خلدون -الذي عاصر المماليك في مصر- أناختراق الشعوب التركية لقلب العالم الإسلامي،وهيمنتَها العسكرية على زمام الأمور فيه، كان “عناية منالله تعالى سابقة، ولطائفَ في خلقه سارية‏”، فكتب:
“حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبستْأثواب البلاء والعجز، ورُمِيت الدولة بكفرة التتر الذينأزالوا كرسيّ الخلافة، وطمسوا رونق البلاد، وأدالوابالكفر عن الإيمان، بما أخذ أهلَها عند الاستغراق فيالتنعُّم، والتشاغل في اللذَّات، والاسترسال في الترف، منتكاسُل الهمم، والقعود عن المناصرة، والانسلاخ منجِلدة البأس وشعار الرجولية. فكان من لطف اللهسبحانه أنْ تداركَ الإيمانَ بإحياء رمَقه، وتَلافى شملالمسلمين بالديار المصرية، بحفظ نظامه، وحماية سياجه،بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية، وقبائلها العزيزةالمتوافرة، أمراء حامية، وأنصارا متوافية..‏ يدخلون فيالدين بعزائم إيمانية، وأخلاق بدوية، لم يدنِّسها لُؤْمالطباع، ولا خالطتها أقذارُ اللذات، ولا دنَّستها عوائدالحضارة، ولا كسَر من سورتها غزارةُ الترف‏.‏. فيسترشحمن يسترشح منهم لاقتعاد كرسيِّ السلطان، والقيامبأمور المسلمين، عناية من الله تعالى سابقة، ولطائف فيخلقه سارية‏.‏ فلا يزال نشءٌ منهم يردف نشء، وجيليعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصل به من الغَناء،والدولة ترِفُّ أغصانُها من نضرة الشباب.” (تاريخ ابنخلدون، 5/428).
وقد عبَّر ابن خلدون -وهو العربياليمنيُّ الجذور- عن عمق أساهُ لأنالعرب فقدوا روحهم المتوثبةوفتوتهم الأولى، بعد أن جمع النبيصلى الله عليه وسلم شملهم،وأحال حياتهم من حياة الانتحارالجماعي في اقتتال بين القبائل دونغاية أو رسالة أخلاقية، إلى حياةالتوحيد والوحدة والجهاد، لبناءعالم أفضل لهم وللبشرية.
والسبب في هذا التراجع -في تحليلابن خلدون- هو إهمال العربلمصدريْ قوتهم، وهما الرسالةالإسلامية والعصبية الاجتماعية. لكنابن خلدون -وهو المسلم المتجاوزلحدود الانتماء العرقي- كان مغتبطابأن التُّرك سدُّوا مسدَّ العرب فيقيادتهم لمسار الحضارة الإسلامية، بعد أن خَبَت وهجُالروح التي حرَّكت العرب الفاتحين في صدر الإسلام.
لقد منحت الحملات الصليبية والغزوات المغولية فرصةذهبية للأتراك لاكتساب شرعية القيادة والريادة فيالعالم الإسلامي بجدارة، في وقت كان فيه المسلمون فيمسيس الحاجة إلى براعة الأتراك العسكرية،واستعدادهم للتضحية. وهكذا امتدت حقبة الريادةالتركية في العالم الإسلامي ثمانية قرون ونصف قرن،من تتويج أول سلطان سلجوقي -وهو السلطان طغرل-في بغداد عام 1055م إلى خلع آخر سلطان عثماني قوي -وهو السلطان عبد الحميد الثاني- في إسطنبول عام1909م. وانتقل مركز ثقل الحضارة الإسلامية غربا معحركة القافلة التركية المغرِّبة، من وسط آسيا إلى بلادفارس، ثم إلى العراق والشام، وأخيرا إلى مصروالأناضول.كانت الجنديَّة طريق الأتراك إلى القيادة، فهم لميستحوذوا على وجدان المسلمين وولائهم إلا لحسنبلائهم وحملهم راية الملة والأمة. وقد برهن التركعلى صلابة والتزام في الدفاع عن حدود دار الإسلام لامثيل لهما لدى أي من الشعوب في تاريخ الإسلام. وبهذهالصفات تقدَّم ذلك الشعب القوي الشكيمة بجدارة،وانتقل من الصفوف الخلفية إلى الصدارة. وقد روى مؤرخحلب ابن العديم قصة طريفة تدل على عمق التحولالتاريخي الذي مرَّ به الترك في طريقهم إلى ريادة العالمالإسلامي. ففي معرض حديثه عن زحف السلطان ألبأرسلان -ثاني سلاطين السلاجقة- من العراق إلى الشام،كتب ابن العديم:
“ولما قَطع السلطان المُعظم الفرات من نهر الجوز، نزلبعض المروج على الفرات، فرآه حسنا، فأُعجب به، فقالله الفقيه أبو جعفر: يا مولانا احمد الله تعالى على ماأنعم به عليك، فقال: وما هذه النعمة؟ فقال: هذا النهرلم يقطعه قطُّ تركي إلا مملوكٌ، وأنتم اليوم قد قطعتموهملوكا. قال: فلعهدي به وقد أحضر جماعة من الأمراءوالملوك، وأمرني بإعادة الحديث، فأعدتُه، فحمد الله هووجماعة من حضر عنده حمدا كثيرا.” (ابن العديم، بغيةالطلب في تاريخ حلب، 4/1974).
وقد بيَّنتُ في صدر كتابي عن (أثر الحروب الصليبية علىالعلاقات السنية الشيعية) -وهو مترجم إلى اللغةالتركية- أن العرب كانوا سيف الإسلام في حقبة الاندفاع،وأن الترك كانوا درع الإسلام في حقبة الدفاع، وكأنماانتقلت مصائر العالم الإسلامي من أيدي العرب إلى أيديالترك منذ منتصف القرن الخامس الهجري. كما بيَّنتُبالاستقراء التاريخي أن كل القادة العظام للمقاومةالإسلامية خلال الحروب الصليبية (سلاجقة،ودانيشمند، وأراتقة، وزنكيين، وخوارزميين، ومماليك)كانوا من أصول تركية.
فالمقاومة الإسلامية للحملاتالصليبية -في وجهها السوسيولوجيوالعسكري- كانت ظاهرة تركية فيجوهرها. وما تخللها من دوررائع للسلطان الكردي صلاح الدينالأيوبي، تأكيدٌ للقاعدة لا خروج عليها، لأن صلاح الدين كان جزءامن النخبة العسكرية التركية لامقابلا لها.
ولسنا بحاجة إلى التذكير بأنالمماليك الأتراك بقيادة بيْبرس هممن كسروا العاصفة المغولية العاتيةفي معركة عين جالوت بفلسطين، وهو نصرٌ أنقذ العالم الإسلامي منخطر مُميت لم يواجه مثلَه من قبل.كما أننا لسنا بحاجة إلى التذكيربجهد العثمانيين وجهادهم علىمدى أربعمائة عام لصيانة حدودالعالم الإسلامي، من سواحل الخليج إلى ضفافالمتوسط، ومن أدغال السودان إلى أعماق البلقان.
ومما ساعد الأتراكَ في الإمساك بمصائر العام الإسلاميأنهم كسبوا العرب السنَّة إلى صفهم، وهم عمقالإسلام الروحي والثقافي. كما كسبوا الأكراد السنة إلىصفهم، وهم شعب محارب كانت له مواقف مشهودة فيمقاومة الصليبيين. وقد توصلت النخبة السنية التركيةوالعربية والكردية إلى أرضية مشتركة من التفاهم،تتأسس على تقاسم الأدوار والمكانة. وقد لاحظ البحَّاثة فيالأدب الفارسي والتركي، حسين مجيب المصري، أنالأتراك لم يتَّسِموا بالاستعلاء العرقي والثقافي فيعلاقتهم بالعرب بخلاف الفرس الذين تحكمت فيهمالعُقد العرقية والثقافية تجاه العرب والترك معا على مرِّالقرون (المصري، صلات بين العرب والفرس والترك، ص219-220).
وتعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة انكشاف إستراتيجيخطير، تغذيها ظروف تمزُّق داخلي مزمن، واختراقخارجي خطير. وهي حالٌ تشبه حالها أثناء الحملاتالصليبية والعاصفة المغولية. ومن المؤكد أنه لن يُخرجالأمة من هذا المأزق إلا ظهور قوة إسلامية تتصدر مسيرتهابعزم وجدارة.
وقد أدرك الفيلسوف السياسي صمويل هنتغتون هذاالأمر، وشرحه بإطناب في كتابه الذائع الصيت (صدامالحضارات)، وهو كتاب كثيرا ما أسيء فهمُه، وأسيءفهم مؤلفه الذي لم يكن داعية للحرب أو صدامالحضارات -وقد وقف في وجه الغزو الأميركي للعراقبشجاعة- وإنما كان مراقبا ذكيا، أدرك بفطنته أثَر الأديانوالثقافات في العلاقات الدولية في أيامنا، خلافا لما كانعليه الحال خلال الحرب الباردة. وقد شرح هنتيغتونالفكرة الرئيسية في كتابه بالقول:
إن “العالم سيتم تنظيمه [بعد الحرب الباردة] علىأساس الحضارات أو لن يُنظَّم أبدا. في هذا العالم دولالمركز في الحضارات هي مصادر النظام، وذلك في داخلالحضارات ثم بين الحضارات مع بعضها، عن طريقالتفاوض بين دول المركز في كل منها.. العوامل الثقافيةالمشتركة تعطي شرعية للقيادة، ولدور دولة المركز فيفرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء، والقوى والمؤسسات الخارجية” (هنتيغتون، صدام الحضارات،ص254).
ثم توصل إلى أن “السلام لا يمكن أن يتحقق أو أن يتمالحفاظ عليه في أي منطقة إلا بقيادة الدولة المسيطرة فيتلك المنطقة. الأمم المتحدة ليست بديلا عن القوةالإقليمية، والقوة الإقليمية تصبح مسؤولة وشرعيةعندما تمارسها دولة المركز مع الدول الأعضاء فيحضارتها. دولة المركز يمكن أن تقوم بوظيفتها النظامية،لأن الدول الأعضاء تنظر إليها كقُربَى ثقافية. الحضارةأسرة ممتدة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنا، تقوم دولالمركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب. وفي غيبة القُرْبى هذه، فإن قدرة الدولة الأقوى على حلِّ الصراعات فيمنطقتها أو فرض النظام فيها تصبح محدودة.” (صدامالحضارات، 255).
وقد لاحظ هنتيغتون حالة اليُتم التيتعيشها الحضارة الإسلامية في هذاالعصر، لأنها لا تملك “دولة مركز”تتصدر مسيرتها، وتضبط خلافاتهاالداخلية، وتدرأ عنها سهام الأعداء.فـ”عدم وجود دولةِ مركزٍ إسلاميةيمثل مشكلات مهمة لكل منالمجتمعات الإسلامية وغيرالإسلامية” (صدام الحضارات،221)، فهذا الأمر “مصدر ضعفبالنسبة للإسلام، ومصدر تهديدللحضارات الأخرى.” (ص 289).
وقد بدأت حالة الانكشافالإستراتيجي هذه منذ تفكيك الدولةالعثمانية على أيدي المستعمرينالأوربيين، مطالع القرن العشرين.فـ”نهاية الإمبراطورية العثمانية تركتالإسلام دون دولة مركز.. وهكذا فإنهعلى مدى معظم القرن العشرين لميكن لدى أية دولة إسلامية قوة كافية، ولا ثقافة كافية،ولا شرعية دينية، للاضطلاع بهذا الدور، لكي تصبحمقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية،كزعيم للحضارة الإسلامية” (صدام الحضارات، 289).
وقد استعرض هنتيغتون ست دول إسلامية وقدَّم تقييمالإمكانية اضطلاع أي منها بدور “دولة المركز” في الحضارةالإسلامية، وهي: السعودية، ومصر، وتركيا،وإندونيسيا، وباكستان، وإيران. فوجد أن خمسا منهاتعاني من موانع جوهرية تحول بينها وبين هذه الريادة،إما بسبب “عدد سكانها الصغير نسبيا وعدم حصانتهاالجغرافية” (السعودية)، أو بسبب “الفوارق الدينية”بينها وبين جمهور الأمة وسوء العلاقة بينها وبين العرب(إيران)، أو لفقرها في الموارد الطبيعية (مصر)، أولانقسامها العرقي وعدم استقرارها السياسي (باكستان)،أو لأنها “تقع على حدود الإسلام بعيدا عن مركزهالعربي” (إندونيسيا).
وبقيت من الدول الست تركيا وحدها هي المؤهلة لريادةالعالم الإسلامي، فـ”تركيا لديها التاريخ، وعدد السكان،والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي، والتماسكالوطني، والتقاليد العسكرية، والكفاءة.. لكي تكون دولةمركز. ولكن أتاتورك حَرَم الجمهورية التركية من أنتخلُف الإمبراطورية [العثمانية] في هذا الدور، وذلكبسبب تحديدها بكل وضوح كمجتمع علماني” (صدامالحضارات، ص 291). ثم فرضت عليها الحرب الباردةوالخطر السوفياتي “التورط مع الغرب” (ص 236) فيأحلافه، مما جعل تركيا “دولة ممزَّقة” (ص 243) فيهويتها وفي خياراتها الإستراتيجية.
فالموانع التي تمنع تركيا من الصدارة والتحول إلى دولةالمركز في العالم الإسلامي موانع عارضة، وليستموانع جوهرية، وهي الشطط الأيديولوجي العلمانيالذي فُرض على شعبها، وفرض التبعية للغرب عليها،بينما تدعوها مكانتها وتاريخها وثقافتها إلى أن تكون رأسافي العالم الإسلامي، لا ذنَبا في الغرب. وقد انتبههنتيغتون إلى أن تلك القيود المفروضة على تركيا بدأتتتآكل، فـ”في تركيا -كما في كل مكان- تؤدي الديمقراطيةإلى الرجوع إلى الأصول وإلى الدين.” (ص 241)، ولذلكفإن “الانبعاث الإسلامي غيَّر شخصية السياسة التركية”(ص 241). وختم هنتيغتون ملاحظاته الثمينة بإمكان تحرُّر تركيا منالقيود المفتعلة المفروضة عليها نهائيا حين تستكملاكتشاف ذاتها، وتعيد تعريف نفسها، فكتب: “ماذا لوأعادت تركيا تعريف نفسها؟ عند نقطة ما يمكن أن تكونتركيا مستعدة للتخلي عن دورها المُحبِط والمُهين كمتسوِّليستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورهاالتاريخي الأكثر تأثيرا ورُقيا كمُحاور رئيسي باسم الإسلاموخصم للغرب.” (ص 291). لقد صدر كتاب هنتيغتونمنذ نحو عقدين من الزمان، ولو كان مؤلفه حيا اليوملسَعِد بصدق تحليلاته، وعمق نظرته إلى المستقبل، فقدأعادت تركيا تعريف نفسها، واكتشفت جذورها.
إن عبرة التاريخ الذي استعرضناههنا، ومنطق الجغرافيا السياسيةالذي تحدث به هنتيغتون، يدلان على أن تحول أي من الدول اليوم إلى”دولة مركز” في العالم الإسلامييستلزم شروطا ثلاثة:
– أن تكون قريبة مكانيا ووجدانيا منالعالم العربي الذي هو القلب الثقافيللإسلام.
– وأن تملك القوة الاقتصاديةوالعسكرية والبشرية والمؤسسيةالداعمة لطموحاتها.
– وأن تملك الإرادة السياسيةوالاستعداد للتضحية والمخاطرة ثمنالهذه الريادة.
وتركيا هي الدولة الوحيدة التي يتوفر فيها الشرط الأولوالثاني. أما الشرط الثالث فلم يتحقق بعدُ، كما يظهرمن عجز تركيا عن وقف الجرح السوري النازف علىحدودها منذ خمسة أعوام، رغم رغبتها في ذلكومصلحتها فيه. وربما يكون السبب هو قيود الدولةالعميقة والكيان الموازي الذي كان ينخر تركيا منالداخل، والخوف من غدر الغرب الذي يتربص بهاالدوائر.
لكن فشل الانقلاب الأخير حرر أيدي تركيا إلى حد بعيدمن هذين القيدين. وتدل الهزة الوجدانية التي صاحبتأحداث الانقلاب في جميع أرجاء العالم الإسلامي على أنفشل هذا الانقلاب ليس حدثا سياسيا عابرا، بل هو بدايةانعطافة تاريخية كبرى، ستعيد الأتراك إلى صدارة العالم الإسلامي بجدارة.

 

شاهد أيضاً

نظرات في الإسراء والمعراج.. للإمام الشهيد حسن البنا

نحمد الله تبارك وتعالى، ونُصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *