الخميس , أكتوبر 9 2025
الرئيسية / إسلاميات / الحلقة الثانية لشهر يوليه : من أخلاق الميدان

الحلقة الثانية لشهر يوليه : من أخلاق الميدان

الافتتاحية: الآيتان1- 2 من سورة المائدة

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة:1- 2).

يقول الدكتور وهبة الزحيلى: “من أهم وأخطر ما تميزت به شريعة القرآن: هو الوفاء بالعقود والعهود مع الناس ومع الله، وتعظيم شعائر الله وأحكامه وحرماته، فذلك دليل الأصالة والقوة والشجاعة والثقة بالنفس، ولم يسوغ الشّرع نقض عقد أو عهد حتى مع الأعداء، احتراما للالتزام والمعاهدة، وليكون المؤمنون قدوة حسنة للبشرية في صيانة المعاهدات واحترام العقود. قال الله تعالى في مطلع سورة المائدة المدنية النزول، أي النازلة بعد الهجرة في حجة الوداع، أو في عام فتح مكة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ نادى الله المؤمنين بصفة الإيمان ليحثّهم على امتثال ما يكلفهم به، قائلا: يا من اتّصفتم بالإيمان وتركتم دعاوى الشيطان أوفوا بالعقود، سواء عقود الشّرع من حلال وحرام وفرائض، وعقود الناس بعضهم مع بعض لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم عن أنس وعائشة: (المسلمون عند شروطهم) فيجب الوفاء بالعهود والعقود على حسب الشروط المتفق عليها ما لم تصادم أوامر الشرع، وتشمل العقود كل الارتباطات بقول موافق للحق والشرع. ومن هذه العهود المأخوذة علينا من الله: إحلال جميع بهائم الأنعام من إبل وبقر وغنم إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية، وغير سباع البهائم وكل ما له ناب يعتدي به على غيره، وكل ما له مخلب من الطيور، حال كونكم غير محلّي الصّيد البري في أثناء الإحرام بحج أو عمرة، فيحرم الصيد في الإحرام، ويحرم في الحرمين: المكّي والمدني، ولو في غير حالة الإحرام، إنالله يحكم ما يريد من الأحكام، ويعلم أنه حكمة ومصلحة. وقد نزلت آية ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ حينما عزم نفر من المهاجرين والأنصار على الاعتداء على الحطم بن هند البكري الذي قدم المدينة، فبايع النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأسلم، ثم ارتدّ عن الإسلام لما قدم اليمامة.

ونزلت آية ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ عام فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة حينما كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في السنة السادسة مع أصحابه، فصدّهم المشركون عن البيت الحرام، فمرّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة، فقال الصحابة: نصدّ هؤلاء، كما صدّوا أصحابنا؛ فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان: لا يحملنّكم البغض من أجل أن صدّوكم على أن تعتدوا عليهم. ومعنى الآية: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا تحلّوا معالم الله، ولا تتعدّوا حدود الله وطاعاته في أمر من الأمور، وبخاصة مناسك الحج ومشاعره، فلا تتهاونوا بحرمتها، ولا تخلّوا بأحكامها، ومكّنوا جميع المسلمين من أداء مناسك الحج. فالمراد بشعائر الله: مناسك الحج، وجميع ما أمر الله به أو نهى عنه، وما حدّ تحريمه في الإحرام. ولا تنتهكوا بالقتال والعدوان حرمة الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، فلا تقاتلوا المشركين فيها، ولا تبدّلوها بغيرها، كما كان العرب يفعلون في الجاهلية من عملية النّسيء، أي تأخير حرمة شهر حرام إلى غيره، ولا تحدثوا في أشهر الحج ما تصدّون به الناس عن الحج. ولا تعترضوا الهدي (الشاة ونحوها) المهدي للحرم أو المسوق له، بالغصب أو الأخذ، أو المنع من بلوغ محلّه، حتى لا يصل إلى الكعبة.. ولا تنتهكوا حرمة ذوات القلائد: وهي ما قلّد به الهدي مما يعلق في عنق البعير ونحوه من قلادة ليعلم أنه هدي، فلا يتعرّض له، وذلك يشمل الهدي المقلّد والذي لم يقلّد. ولا تحلّوا حرمة قوم قاصدين المسجد الحرام فتغيروا عليهم، حالة كونهم يطلبون من الله الفضل، أي الرزق والثواب، والرضوان، أي رضا الله عنهم. وإذا فرغتم من إحرامكم وحللتم منه، وأنتم في غير أرض الحرم، جاز لكم ما كان محرّما عليكم في حال الإحرام وهو الصيد، فاصطادوا حينئذ كما تشاؤون. ولا يحملنكم بغض قوم وكراهيتهم، على أن تتعدوا حكم الله، فتعتدوا عليهم. وتعاونوا على البر: وهو فعل كل ما أمر به الشّرع و ترك كل ما نهى عنه، ولا تتعاونوا على الإثم، أي الذنب والمعصية: وهي كل ما منعه الشرع، واتّقوا الله بفعل ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، إن الله شديد العقاب لمن عصى وخالف. والبر والتّقوى كما قال قوم: هما لفظان بمعنى واحد، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة، إذ كل برّ تقوى، وكل تقوى برّ”(التفسير الوسيط، بتصرف).

من الأخلاق التى تدعو إليها الآيتين الكريمتين:

  • العدل فى الرضى والغضب، و الوفاء بالعهود واحترام العقود حتى مع الأعداء ما احترموا عقودهم و التزموا بعهودهم.
  • تعظيم شعائر الله، والوقوف عند حدوده بشكل عام، وخاصة أثناء الحج فى الشهر الحرام والبلد الحرام.
  • التعاون علي البر والتقوى وعدم التعاون علي الإثم والعدوان.
  • ……………………………………………………………….أخرى.

من أخلاق الميدان

الثبات:

الثبات فى مواقف المواجهة، و الثبات على المبدأ وعدم التغيير أو التفريط أو النكوص من الأخلاق اللازمة فى ميدان الدعوة والإصلاح والجهاد والثورة على الظلم ومقاومة الطغيان والاستبداد، وفى تعريف الثبات يقول الإمام البنا رحمه الله: “وأريد بالثبات أن يظل الأخ عاملا مجاهدا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام, حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين , فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية”(حسن البنا، مجموعة الرسائل) “فالمنتصر في الحياة هو الثابت علي الإيمان، والمنتصر في دعوته هو الثابت علي فكرته، والمنتصر في تحمُّل التضحيات هو الثابت علي منهجه، والمنتصر في مواجهة التحديات والمؤامرات هو الثابت علي الفهم، فالمنتصر الحقيقي هو الثابت علي الإسلام إيمانًا ودعوة ومنهجًا وفكرة وفهمًا، ولذلك فالثبات هو حياة المنتصرين، والمنتصرون هم الثابتون، وهذا سر انتصار أصحاب الحق” (جمعة أمين، الثبات والدعاة).

و قد نشر الإمام البنا فى 5 رمضان سنة 1349هـ الموافق 2 يناير سنة1931م : “من مبادىء الإخوان المسلمين: سلامة الاعتقاد والاجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى وفق الكتاب والسنة.- الحب في الله والاعتصام  بالوحدة الإسلامية، والتأدب بآداب الإسلام الحنيف، وتربية النفس والترقي بها إلى معرفة الله تعالى وإيثار الآخرة على الدنيا، والثبات على المبدأ والوفاء بالعهد مع اعتقاد أن أقدس المبادىء  هو الدين”(حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية). بل إن الإمام البنا جعل الثبات والتضحية من الوسائل الخلقية اللازمة لكى يحقق حلمه الذى خطه فى موضوع التعبير الذى كان عنوانه: “اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبيَّن الوسائل التي تعدها لتحقيقها. فكتب الإمام البنا: “خاص وهو إسعاد أسرتي وقرابتي .وعام: وهو أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم.. تارة بالخطابة والمحاورة، وأخري بالتأليف والكتابة والثالثة بالتجول والسياسة. وقد أعددت لتحقيق الأول: معرفة بالجميل. ولتحقيق الثاني، من الوسائل الخلقية: الثبات والتضحية وهما ألزم للمصلح من ظله، وسر نجاحه كله. ومن الوسائل العملية: درسًا طويلاً، سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية، وتعرفاً بالذين يعتنقون هذا المبدأ، أو يعطفون علي أهله، وجسمًا تعوَّد الخشونة علي ضآلته، وألف المشقة علي نحافته، ونفسًا بعتها لله صفقة رابحة، راجيًا منه قبولها، سائله إتمامها. ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله علي نفسي، وأُشهد عليه أستاذي في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير”(حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية).

والثبات عند الملمات من عوامل النصر. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال:45) “فهذه هي عوامل النصر الحقيقية : الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر؛ فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين : الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها”(فى ظلال القرآن، بتصرف). ويقول تعقيباً على قوله تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ (البقرة:243): “موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر، لم تغير مصيرهم، ولم تدفع عنهم الموت، ولم ترد عنهم قضاء الله. وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله”(فى ظلال القرآن، بتصرف).

وهذا الخلق لازم لكل من رفع راية الجهاد والثورة ضد الظلم، وهو أمر صعب يتطلب  طاقة عظيمة وعملاً دائباً: “فمحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان، وتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف، وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء هي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. و هى كافية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو  واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح”(فى ظلال القرآن، بتصرف) “فثبوت الحق شئ غير معرفته، غير الاقتناع به، غير الثبات عليه، غير الدعوة إليه، غير الدفاع عنه. لقد رأينا فى تجاربنا مع الأيام أن الحق غريب مستوحش، فقد نحسب خدمة الحق لا تعدو تقريره، وكشف النقاب عنه. وهذا خطأ ضخم، فإن تثبيت الحق كإحياء جسم ما، أو إدارة آلة ما، لابد له من جهود دائبة مضطردة، وإلا أذابه الباطل، وجرفه فى تياره”(محمد الغزالى، الاستعمار أطماع وأحقاد). “يجب أن يظل المسلم موفور الثقة بادى الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر فى الأفق ولو تبعتها أخرى وأخرى، بل يبقى موقنا بأن بوادر الصفو لابد آتية، وأن من الحكمة ارتقابها فى سكون ويقين . وقد أكد الله أن ابتلاء الناس لا محيص عنه، حتى يأخذوا أهبتهم للنوازل المتوقعة، فلا تذهلهم المفاجآت ويضرعوا لها. ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم﴾. وذلك على حد قول الشاعر: عرفنا الليالى قبل ما نزلت بنا فلما دهتنا لم تزدنا بها علما”( محمد الغزالى خلق المسلم).

وقد حفل القرآن الكريم بنماذج الثبات والصمود مثل سحرة فرعون واصحاب الأخدود وغيرهم “وما أروع أن نشهد ذلك النموذج الخالد من الثبات و الصبر, و الاستمساك بعروة الحق, و الاستهانة بكل شيء حتى الحياة في سبيل الإيمان و العقيدة من أتباع موسى عليه السلام الذين آمنوا بدعوته, و قد تحدوا فرعون الجبار في استهانة و استماتة : ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا, إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه:72-73)”(حسن البنا، مجموعة الرسائل). وفى سيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نماذج لا تحصى للثبات؛ ويكفى الإشارة إلى موقفهم فى أحد وحمراء الأسد بعدها “فالهزيمة فى معركة أحد كشفت عن معادن بالغة النفاسة؛ فهناك رجال ركلوا الدنيا بنعالهم ومضوا إلى الله لا يلوون على شيء، وهناك رجال ثبتوا فى مواقف ميئوس منها لا يحملهم على الثبات إلا الوفاء إلى آخر رمق، وهناك نساء انطلقن إلى معارك ملؤها البطولة والفداء  يتقاعس عنها الواهنون،  وتطير إليها أولئك المؤمنات الصامدات، وهناك من رزق الشهادة وهو لاغب يحمل أعباء الكفاح برجولة رائعة لا تعنيه إلا نصرة الله ورسوله. وهناك وهناك. إنها معركة حفرت ذكرياتها فى ضمائر المؤمنين فما تنسى أبدا.. وبقى ذكر أحد فى قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى آخر عمره “(محمد الغزالى، نحو تفسير موضوعى). وتاريخ الإسلام كذلك “خطه نفر من المتوكلين على الله، ما هالتهم قوى الباطل المسيطر شرقا وغربا، لقد نازلوه باقتدار مطمئنين إلى وعد الله بالفوز: ﴿قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين﴾ (الملك: 29). وعلى المسلمين المعاصرين، أو على الثلة من الآخرين، أن يثبتوا فى مواقعهم تجاه الغارات التى تريد إبادة الإيمان. ومع هذا الثبات المتوكل على الله، سيميل ميزان القوة ضد أعداء الله، ﴿ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله”(محمد الغزالى، المحاور الخمسة للقرآن الكريم). “ولقد حذر القرآن الكريم من الإذعان لضغوط الأهل آباء وأبناء، وحض على الثبات والصمود والجهاد في سبيل الله فقال تعالى ﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين﴾(التوبة 24) “(فتحى يكن، المتساقطون على طريق الدعوة).

وقد اهتم الإمام البنا رحمه الله بالتربية العملية علي الثبات والتضحية. يقول عنه الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله: ” كان لا يعلمنا ذلك فى مكتبه أو محاضراته أو نظريا أو فلسفيا ولكن يعلمنا الثبات والتثبت والصمود عمليا فى تنقلاتنا معه فى القرى والدساكر والكفور. أقدامنا تغوص فى الرمل والزلط والأرض الرطبة ومناديلنا تكاد تعصر من العرق الذى نجففه من طول ما نمشى . كنا نبيت مع الاخوان على الحصير فى المساجد أو فى الأجران إن تعثر المبيت فى المسجد أو المضيفة ـ الأكل أقله وأخشنه. كان الوفاء بالبيعة يلزمنا بالنزول عند رغبة من بايعناه فى غير معصية”(عمر التلمسانى، ذكريات لا مذكرات). وكذلك كانت سير المرشدين وأقوالهم فهذا الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله يقول: “نريد الأخ المسلم القدوة الذي يضرب المثل في الثبات علي طريق الدعوة، فيواصل سيره في اطمئنان وثقة ويقين بنصر الله مهما بعدت المدة وتطاولت السنون، ومهما تعرض للمحن والإيذاء والمحن هو النصر في تلك المرحلة، وأن الضعف والتخلي هو الهزيمة . وليعلم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا. فليصبر وليثبت ويسأل الله الصبر والثبات والنصر وليعلم أن الوقت جزء من العلاج وأنه يقاس بعمر الدعوات والأمم وليس بأعمار الأفراد . ويعين علي الثبات أن يعلم الأخ أن طريقنا – وإن كانت طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات – هي وحدها التي تؤدي إلي المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة”(مصطفى مشهور، القدوة على طريق الدعوة). ويقول أيضاً: “وقد خبرنا طريق الدعوة وأثناء المحن والفتن قعد البعض أمام بعض العقبات كما انحرف البعض عن الطريق ولكن كان الثبات أمرا هاما وخاصة أثناء المحن وعند الجهاد وملاقاة الأعداء، وفي قصة طالوت وجالوت خير مثال لتخطى العقبات وضرورة الثبات ومواصلة السير وعند مواجهة العدو سألوا الله الصبر والثبات ﴿ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله﴾(البقرة:250)”( مصطفى مشهور، مقومات رجل العقيدة). ويقول: “ومما يعين علي الثبات المقارنة بين عذاب الله وفتنة الناس فنجد الفارق كبيرًا جدًا فتحمل فتنة الناس نجاة من عذاب الله ولا نجعل فتنة الناس كعذاب الله قال تعالي: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾(العنكبوت:10)”(مصطفى مشهور، طريق الدعوة بين الأصالة والانحراف).

وهذا الأستاذ محمد مهدى عاكف فك الله أسره يقول: “على الثبات، والتضحية، واليقين، والرجولة تقوم عزة الدعوة، وتنتصر، وتسود، أما لو طلب كل مسلم السلامة لنفسه، ولم يبادل خصوم الدعوة نزالاً بنزال، لخلا الميدان للطغاة الظالمين يصولون فيه ويجولون، لا رادع، ولا مناضل، ولا مُنكِر، ولا حسيب. إن طلب السلامة في مواقف الرَّوع، إن لم يُقَدِّرها صاحب الملك والملكوت، رب العزة والجبروت، لن يحصل عليها طالبها، حتى ولو تَمَرّغ في قذارة المداهنة والنفاق”(محمد مهدى عاكف، رسالة  الهجرة المباركة إعداد وجهاد) ويقول: “إن منحنى الحضارة الغربية في هبوط بعد أن وصل إلى قمة الإنجازات، ومنحنى البناء الحضاري الإسلامي في صعودٍ بعد أن نجح في الثبات والمقاومة، ولن نيأس أبدًا، فليس اليأس من أخلاق الرجال”(رسالة بين الحاضر والمستقبل) ويقول أيضاً: “أيها الإخوان . أيها المرابطون في فلسطين .. أيها المحاصرون في غزة والخليل: لكل مرحلة نصر، وعندما يشتد الظلم ويتصاعد الحصار الظالم، ويستقوي العدوُّ بأبناء جلدتنا على المقاومين والمجاهدين، ويصبح ظلمُ ذوي القربى أشدَّ مرارةً على النفس؛ فإن نصر المرحلة هو الثبات على المبدأ، وعدم التنازل عن الحقوق، والإعداد والاستعداد لمراحل قادمة، أن ننتصر على ضعف نفوسنا وخوَر عزائمنا، ووساوس الشياطين، وجدال المنافقين”(رسالة ثبات حتى النصر). وهذا الدكتور محمد بديع فك الله أسره يقول: “من الصبر الجميل تحمل كل المشقات من أجل تحقيق نهضة أمتنا؛ حيث إن طريق البناء شاق، ومليء بالتحديات، وطبيعته الابتلاءات؛ ما يستلزم الثبات على المبادئ، والالتزام بالمنهج واليقين في وعد الله للصابرين ووعيده للظالمين المستبدين”( محمد بديع، رسالة النصر مع الصبر).

التعاون:

لا يمارى أحد فى أن التعاون من الأخلاق اللازمة للدعاة والمصلحين والثوار المقاومين للظلم والفساد والاستبداد؛ ذلك أن قوى الانقلاب تواجه قوى الثورة مجتمعة ووراءها من يمدها بالدعم المالى والسلاح والخبرة لقمع الثورة وتركيع الشعب الذى رفض التبعية للمشروع الغربى وصوت لصالح المشروع الإسلامى فى خمس استحقاقات انتخابية حرة متتالية؛ فلابد للثوار من مواجهة هذه القوى مجتمعين متعاونين؛ والله عز وجل يدعو إلى التعاون على البر والتقوى فيقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة: من الآية 2) ولا شك أن رفض الظلم ومقاومة الظالمين والسعى لإقامة العدل، وإنصاف المظلومين، وتحرير المستعبدين من جملة البر والمعروف الذى تدعو إليه الآية الكريمة.”فما أحوجنا الى تدعيم رابطة الأخوة و الحب فى الله ليتم التعاون و التفاهم فى يسر والتقاء”( مصطفى مشهور، زاد على الطريق، بتصرف) “والشريعة الإسلامية أول شريعة جاءت بنظرية التعاون الاجتماعي، ونظرية التضامن الاجتماعي، وذلك قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والعدوان﴾”( عبد القادر عودة، الإسلام بين كيد أعدائه وعجز أبنائه).  يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: “ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان ويخوفها عقاب الله، ويأمرها بتقواه، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط، وعلى التسامي والتسامح، تقوى لله، وطلباً لرضاه .ولقد استطاعت التربية الإسلامية، بالمنهج الرباني، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية، والاعتياد لهذا السلوك الكريم.. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه.. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»”( في ظلال القرآن بتصرف). وقد وضع السيد محمد رشيد رضا قاعدة مهمة في هذا المضمار فقال: “نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”(مجلة المنار). ولا شك أن هناك أوجه كثير للتعاون بين رفاق الميدان وإن باعدت بينهم الإيديولوجيات، والتنافس السياسى. فكسر الانقلاب والتخلص من التبعية وتحقيق أهداف الثورة من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية تمثل أهدافاً وطنية يلتقى عليها الجميع حتى يتمكنوا من توحيد الجهود والقوى لتؤتى أكلها وتحقق المرجو منها.

ضبط النفس:

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله فى تفسير قوله تعالي: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾: “إنها قمة في ضبط النفس وفي سماحة القلب، ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس، التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجاً من السلوك الذي يحققه الإسلام، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام. وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .وهو تكليف ضخم ولكنه في صورته هذه لا يعنت النفس البشرية، ولا يحملها فوق طاقتها. فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب، ومن حقها أن تكره. ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن”(فى ظلال القرآن، بتصرف).

وفى ميدان الثورة وقد جرى بين رفاق الثورة ما جرى يصبح من الأخلاق الازمة  للميدان “ضبط النفس أمام عوامل الاستفزاز، ومنعها طوعا أو كرها من أن تستجيشها دواعى الغضب وإدراك الثأر”(محمد الغزالى، خلق المسلم)  وقد أوصى الرسول الكريم بعض أصحابه بقوله صلى الله عليه وسلم: لاتغضب.  “ولذلك كان ضبط النفس عند سورة الغضب دليل قدرة محمودة وتماسك كريم . عن ابن مسعود قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذى لا تصرعه الرجال . قال: لا، ولكنة الذى يملك نفسه عند الغضب”((محمد الغزالى، خلق المسلم).

تطبيقات عملية:

  • لكل مرحة نصر .. ماهو نصر المرحلة الت نعيشها؟ كيف نتحقق به؟
  • راجع الواجبات العملية المطلوبة في الحملة ومدى الالتزام بها

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. من تراث الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *