الخميس , أكتوبر 9 2025
الرئيسية / إسلاميات / الحلقة الثالثة : من زاد الثائرين(2) فى قيام الليل زاد

الحلقة الثالثة : من زاد الثائرين(2) فى قيام الليل زاد

الافتتاحية: الآيتان 63-64 من سورة الفرقان

قال تعالي: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً, وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ (الفرقان:63-64)

من صفات عباد الرحمن أنهم يأخذون نصيباً وافراً من قيام الليل، يقضونه بين الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وطلب العلم. يقول الشيخ عبد المنعم تعيلب رحمه الله: “أهل العبودية الصادقة لربنا الرحمن يقضون معظم ليلهم يصلون، ويتلون آيات الله آناء الليل قياما، ويعبدون ربهم ركعا سجدا تتجافى جنوبهم عن المضاجع. وقد شهد الله تعالى وكفى به شهيدا أن نبينا صلى الله عليه وسلم وصفوة الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم كانوا يصلون بالليل أوقاتا طويلة ﴿إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك﴾﴿أممن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه﴾”(تفسير فيض الرحمن). وهؤلاء هم المثل الأعلى الذى يحتذى والقدوة الحسنة التى تلتمس، وهكذا يجب أن يكون كل من وطن نفسه على حمل الأمانة التى حملوها والقيام بالمهمة العظيمة التى قاموا بها فى دعوة الناس إلى ربهم.

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن، في جنح الليل والناس نيام.فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما، يتوجهون لربهم وحده، ويقومون له وحده، ويسجدون له وحده.هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام.وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلىء قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم يقولون﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَغَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً﴾.. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق.وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته”(فى ظلال القرآن).

دروس مستفادة من الآيات الكريمة:

  • قيام الليل من صفات الملازمة لعباد الرحمن.

  • قيام الليل زاد لا غنى عنه  لكل داعية ومصلح وثائر.

  • …………………………..أذكر دروساً أخري.

لماذا فى قيام الليل زاد؟

كل أهداف الإنسان فى الحياة تتفرع عن الهدف الأساسى لوجوده، وهو الهدف الذى حدده الله تعالى للإنسان يوم خلقه واستخلفه فى هذه الأرض فقال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56). فهذه العبادة بمعناها الواسع هى التى تحقق معنى الوجود الإنسانى، وهذه الآية الكريمة”بما حوت من أدوات الحصر والقصر، هي الشيء الوحيد المطلوب من العباد أداؤه مبنىً ومعنىً. أما الحضارة والمدنية والرقي والقوة والسيادة والعزة والحرية والكشف والاختراع، و كل الأشياء من هذا القبيل مما يعتمل في النفوس مقطوع بتحققها إذا ما أحسنت عبادة الله”(عمر التلمسانى، من صفات العابدين، بتصرف). والعبادة بالنسبة للمسلم زاد يعينه على تخطى العقبات التى يواجهها فى طريقه إلى الله، وهى كذلك”من أهم مقومات رجل العقيدة،والمقصود هو حسن أداء العبادة بحيث تحقق أثرها التربوي وتزود صاحبها بزاد التقوى؛ فالتقوى هي ثمرة العبادة كما بينها الله في قوله تعالى ﴿يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾﴿وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون﴾ وقد فرض الله علينا  العبادة لخيرنا ومنفعتنا كي تزودنا بزاد التقوى، وزاد التقوى هو الذي يحقق لنا السعادة في الدنيا والفوز بالنعيم في الآخرة”(مصطفى مشهور، مقومات رجل العقيدة، بتصرف).

والصلاة لها خصوصية من بين العبادات؛ لأنها الصلة المباشرة والمستمرة بين العبد وربه كما أنها  المظهر المباشر للعبودية لله تعالى، وصلاة الليل لها خصوصية أكثر لبعدها عن مظنة الرياء”فالصلاة زاد ولكنها فى جوف الليل يزداد بها القرب و الزاد و العطاء، يحن العاشقون الى الليل، والمتهجدون أشد حنيناً إليه فالذين آمنوا أشد حباً لله، فى ثنايا الليل قيام وركوع وسجود وذكر وتسبيح وقرآن وتوبة واستغفار ومناجاة ودعاء وبكاء من خشية الله وفى كل ذلك زاد:﴿ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً﴾.الذين يسلكون طريق الدعوة أحوج ما يكونون الى قيام الليل لما يعطيه من زاد، فقد وجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم فى الأيام الأولى للدعوة إلى قيام الليل ليعده لتحمل أمانات الدعوة الثقيلة فقال تعالى:﴿يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلاً إن ناشئة الليل هى أشد وطئاً وأقوم قيلاً﴾. فى قيام الليل مجاهدة وتقوية للإرادة و العزيمة ومغالبة للشيطان وترويض للنفس على الخضوع لله، فمن يترك النوم و الراحة        و الفراش و الدفء ويقاوم رغبات الجسد ويقوم ويتطهر ويؤثر التعبد لله و التقرب إليه، لاشك فى أن ذلك زاداً وإعداداً له وعوناً على طريق الدعوة.القيام بالليل و الناس نيام فيه خلوص وتجرد وإخلاص لله وتخلية للقلب من أى أثر للرياء، والإخلاص من ألزم الصفات للداعى إلى الله وبدونه تحبط الأعمال”(مصطفى مشهور، زاد على الطريق).

و قيام الليل من مظاهر الانتماء إلى رهط الدعاة المصلحين. حيث يرى الأستاذ فتحى يكن رحمه الله أن الانتماء إليهم يعنى “أن أكون في العبادة طمعا لا أقنع ونهما لا أشبع، أتقرب إلي الله بالنوافل استجابة لقول الله تعالي في الحديث القدسي(من عادي لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سالني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكرة مساءته)(صحيح البخارى:6502)، وأن أحرص علي قيام الليل, وأروض نفسي علي ذلك حتي تعتاده، فان قيام الليل من أقوي المولدات الإيمانية.. وصدق الله تعالي حيث يقول ( ان ناشئة الليل هي اشد وطئا واقوم قيلا )(المزمل: 6) ولقد وصف الله عباده المؤمنين بقوله ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالاسحار هم يستغفرون ).(الذاريات: 17-18) ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وصمعا ومما رزقناهم ينفقون )(السجدة: 16)”(فتحى يكن، ماذا يعنى انتمائى للإسلام).

وقيام الليل من أكثر وسائل التربية تأثيراً فى النفس. يقول الإمام البنا رحمه الله: “يا أخي: لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام والخليون هجع، وقد سكن الكون كله وأرخى الليل سدوله وغابت نجومه، فتستحضر قلبك وتتذكر ربك وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته ويطمئن قلبك بذكره وتفرح بفضله ورحمته، وتبكى من خشيته وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك وجهادك ودعوتك وآمالك وأمانيك ووطنك وعشيرتك ونفسك وإخوتك، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.ولهذا يا أخي وردت الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة في فضل هذه الساعات وتزكية تلك الأوقات وندب الصالحين من العباد إلى أن يغتنموا منها ثواب الطاعات، ولهذا يا أخي حرص السلف الصالحون على ألا يفوتهم هذا الفضل العظيم فهم في هذه الأوقات تائبون عابدون حامدون ذاكرون راكعون ساجدون يبتغون فضلا من الله ورضوانا ويزدادون يقينا وإيمانا ويسألون الله من فضله وهو أكرم مسئول وأفضل مأمول. “(حسن البنا، مجموعة الرسائل).

قيام الليل دأب الصالحين:

خير من عبد الله تعالى وقام بين يديه هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم”والمأثور من سيرته الشريفة أنه كان يقوم بالقرآن أوقاتا متطاولة. وحدث وهو في أخريات الحلقة السادسة من عمره أن قام يصلى، وكان في البيت عبد الله بن عباس – وهو شاب في أوائل الصبا – فرأى أن يأتم بالرسول العابد، وشرع الرسول يقرأ ويقرأ والشاب القوي يكايد طول القيام، ويرقب انتهاء الصلاة.. لكن روح العابد المتبتل قهر الشيخوخة ومضى يختم سورة، ويبدأ أخرى.. قال ابن عباس: لقد هممت أن أتركه يصلي وحده، وأنصرف. لقد تورمت أقدامه من طول الانتصاب الخاشع بين يدي رب العالمين لكن الفؤاد العامر بالحب أرهق الجسد الزاحف إلى الستين فهو لا يحس وخز الألم قدر ما يحس سعادة الاستغراق، وحلاوة العبادة، وكما قيل: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام”(محمد الغزالى، فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء).

نعم لقد “كانت صلاة الليل الوقود الأساسي في موكب النبوة الذي بدأ بـ ﴿يا أيها المزمل﴾ وانتهى بـ ﴿يا أيها المدثر قم فأنذر﴾فصلاة الليل لا يعدلها زاد ولا مدد؛ فهي تمد المؤمنين وترفدهم وتزودهم بطاقات وامكانات فوق مستوى التصور والتقدير؛ ذلك أنها عطاء من الله ومنة منه، وصدق الله تعالى حيث يقول: ﴿إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا﴾(المزمل: 6)، ولقد بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لصلاة الليل من فضل عميم فقال: عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات ]ومطردة للداء عن الجسد[.( رواه الإمام أحمد والترمذي وقد صححه الألباني في صحيح الجامع، وضعف ما بين القوسين في ضعيف الجامع).  وروي أن جبريل جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فانك ميت، واعمل ما شئت فانك مجزيّ به، وأحبب من شئت فانك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس.(رواه الطبراني وصححه الألباني)”(فتحى يكن، قوارب النجاة فى حياة الدعاة).

وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس عبادة لله بعد أنبيائه”ومن المأثور عن السلف رضوان الله عليهم:ما ورد عن ضرار الصدائي في وصف علي رضي الله عنه إذ يقول: يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويأنس بالليل ووحشته، وأشهد لقد رأيته وقد أرخى الليل سدوله وغابت نجومه واقفا في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم, ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرضتّ، أم إليّ تشوّقت، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وحسابك عسير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.وقال الربيع: بتّ في منزل الشافعي رضي الله عنه ليالٍ كثيرة فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا. وكان ذلك دأب الأئمة رضوان الله عليهم كذلك… وتلا مالك بن دينار في ورده قول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (الجاثية:21)، فأخذ يرددها حتى أصبح… وقال المغيرة بن حبيب رافقت مالك بن دينار ليلة فقام إلى الصلاة فقبض على لحيته فخنقته العبرة فجعل يقول: اللهم حرّم شيبة مالك على النار، إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار فأي الرجلين مالك وأي الدارين دار مالك؟ فلم يزل ذلك قوله حتى طلع الفجر.ورئي الجنيد بعد موته فقيل له ما فعل الله بك يا أبا القاسم؟ فقال: بليت الرسوم، وغابت العلوم، وانمحت العبارات، وطاحت الإشارات وما نفعنا إلا ركيعات، كنا نركعها في جوف الليل. ومن وصايا لقمان لابنه: يا بني لا يكونن الديك أكيس منك، ينادى بالأسحار وأنت نائم.ولقد كانوا رضوان الله عليهم يجدون في كثرة القيام وحلاوة المناجاة أنسا وراحة تنسيهم عناء الأجسام وتعب الأقدام. قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: أهل الليل في ليلهم أروح من أهل اللهو في لهوهم ولولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو عوض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدون من اللذة لكان ذلك أكثر من هذه الأعمال.وقال بعضهم: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم الآخرة إلا ما يجده أهل القيام في قلوبهم من حلاوة المناجاة.وقال محمد بن المنكدر رضى الله عنه: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة.وقال بعض الصالحين: منذ أربعين سنة ما أحزنني شيء إلا طلوع الفجر. وقال بعضهم: إن الله تعالى ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقظين فيملؤها نورا فترد الفوائد على قلوبهم ثم تنتشر منها إلى قلوب الغافلين .ومن وصف عليّ كرم الله وجهه للمتقين: أما الليل فصافون أقدامهم تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم ويستثيرون دواء دائهم، إذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون”(حسن البنا، مجموعة الرسائل).

ولم تكن الحركة والجهاد والدعوة ومقارعة الخطوب يوماً عذراً لإهمال هذا الزاد، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم “يوازنون بين الزاد والحركة، ويدركون خطورة إهمال التزود؛ فهذا عبد الرحمن بن عبد القاري يقص علينا قصة عجيبة حدثت له مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، يقول: استأذنت على عمر بالهاجرة، فحبسني طويلا، ثم أذن لي وقال: إني كنت في قضاء وردي.  وإن تعجب فعجبٌ فعل الأوائل في المعارك..فعلى الرغم من الجهد العظيم الذي يُبذل في ساحات القتال إلا أننا نجدهم يحرصون على قيام الليل، وتلاوة القرآن، والتضرع إلى الله عز وجل!!” (مجدى الهلالى، التوازن التربوى). ومن أوضح الأدلة علي ذلك ما جاء فى رسالة سيدنا سعد بن أبى وقاص إلى أمير  المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه “بعد معركة القادسية؛ والتي استمرت بضعة أيام، وانتهت بانتصار جيش المسلمين على جيش الفرس أرسل قائد الجيش سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – رسالة يبشره فيها بالفتح، فكان مما جاء فيها:وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم..كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوى النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود»(سيد حسن العجاتى، رهبان الليل). وعندما ننظر إلى حال المصلحين الذين كان لهم أثر إيجابي في تاريخا لأمة، نجدهم قد حققوا التوازن بين الاهتمام بتحصيل الزاد وبين الحركة وبذل الجهد في سبيل الله.يقول القاضي ابن شداد عن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي:وأما الصلاة، فكان -رحمه الله- شديد المواظبة عليها، حتى إنه ذكريوما أنه من سنين ما صلى إلا جماعة، وكان يواظب على السنن الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ من الليل، وإلا أتى بهاقبل قيام الفجر، وكان -رحمه الله- يحب سماع القرآن العظيم، وكان خاشع القلب، غزير الدمع، إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته” (مجدى الهلالى، التوازن التربوى).

منزلة قيام الليل فى دعوة الإخوان:

                        يقول الإمام البنا رحمه الله: “هناك درجة رابعة بين درجات الانضمام. وهي درجة الانضمام الجهادي وهي ليست عامة بل هي من حق الأخ العامل الذي يثبت لمكتب الإرشاد محافظته على واجباته السابقة. وفحصها من حق المكتب. وواجبات الأخ في هذه المرتبة -فضلاً عما سبق-تحري السنة المطهرة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً في الأقوال والأفعال والأحوال، ومن ذلك قيام الليل وأداء الجماعة إلا لعذر قاهر. والزهادة والعزوف عن مظاهر المتع االفانية والبعد عن كل ما هو غير إسلامي في العبادات وفي المعاملات وفي شأنه كله والاشتراك المالي في مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما دام أهلاً لذلك وتلبية دعوة المكتب متى وجهت إليه في أي وقت وفي أي مكان، وحمل المصحف ليذكره بواجبه نحو القرآن الكريم”(مذكرات الدعوة والداعية). وبعد أن ذكر الإمام البنا  نماذج من حفاظ السلف علي قيام الليل فى العسر واليسر قال رحمه الله: “كذلك كانوا  أيها الأخ -فاسلك سبيلهم وانهج نهجهم أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، ولا تجعل قيامك قاصرا على ليلة الاجتماع بإخوانك بل عمّمه في جميع لياليك ما استطعت، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، واعلم أنه مما يعينك على قيام الليل، إخلاص النية واستحضار العزيمة وتجديد التوبة والبعد بالنهار عن المعصية والتبكير بالنوم والقيلولة إن استطعت، واستعن الله يعنك وتقرب إليه يقربك واسأله من فضله يعطك”( حسن البنا،  مجموعة الرسائل، بتصرف).

من ثمرات قيام الليل:

  • إجابة الدعاء ومغفرة الذنوب:فقد تواترت الآثار أن وقت الليل من الأوقات الفاضلة التى يجاب فيها الدعاء خاصة وقت السحر أو الثلث الأخير من الليل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» (رواه البخاري ومسلم).وفي رواية مسلم: «أن الله يمهل حتى إذا ذهب الثلث الأول من الليل نزل إلى سماء الدنيا فيقول أنا الملك فمن الذي يدعوني»وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلميقول: «أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن»(رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح). وعن أبي أمامة رضى الله عنه قال: «قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟. قال جوف الليل الأخير ودبر الصلوات»(رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح). “قالت عائشه رضي الله عنها : «بلغني عن قوم يقولون: إن أدينا الفرائض لم نبال أن لا نزداد، ولعمري لن يسألهم الله إلا عما أفترض عليهم، ولكنهم قوم يخطئون باليل والنهار، وما أنتم إلا من نبيكم وما نبيكم إلا منكم، والله ما ترك رسول الله قيام الليل» .فأشارت رضي الله عنها إلى فائدتين عظيمتين. الأولى:ضرورة الاقتداء بسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم والتأسي به، ومن ذلك قيام الليل والثانية: أن قيام الليل أسهل الطرق إلى مغفرة الذنوب والخطايا”(خالد أبو شادى، سهام الخير، بتصرف). “قال ابن الحاج في المدخل: وفى قيام الليل من الفوائد جملة:-فمنها أنه يحط الذنوب كما يحط الريح العاصف الورق اليابس من الشجرة.. ومنها أنه ينور القلب.. ومنها أنه يحسن الوجه.. ومنها أنه يذهب الكسل وينشط البدن.. ومنها أن موضعه تراه الملائكة من السماء يتراءى مثل الكوكب الدري لأهل الأرض، ونفحة من نفحات القيام من الليل تعود على صاحبها بالبركات والأنوار والتحف التي يعجز عنها الوصف، قال صلى الله عليه وسلم :إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله” (حسن البنا، مجموعة الرسائل).

  • الصحة النفسية والبدنية:فعن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد»(سبق تخريجه) والحديث يتضمن جملة من الفوائد منها الانتساب إلى رهط الصالحين، والقرب من رب العزة سبحانه، والوقاية من المعصية، وتكفير الذنوب، وصحة الأبدان، وهذا يعنى تحقق الصحة النفسية والبدنية للمسلم الذى يحافظ على زاده من قيام الليل. “فقيام الليل شعار الصالحين، والعلامة المسجلة لهم. يعرفون بها ويميزون، هو عنوان أخوتهم الإيمانية والحبل الوثيق الذي يصلهم جيلاً بعد جيل، هو روضتهم الزاهرة وفردوسهم المنشود وديدنهم المتفرد على مر العصور والأزمان. امتطوا صهوته ليكون مركب الوصول بسهم الوجل من ذنوب اقترفوها أو آثام ولغوا فيها فحصدوا ما زرعوا تكفيراً للسيئات، وأورثهم الحياء من زلل يعرض أو معصية تلوح فالعين التي بكت من خشية الله كيف تلتذ بنظر محرم، واللسان الذي رتل وسبح واستغفر كيف يتحول لساناً يغتاب ويكذب وينم، والجسد الذي هوى ساجداً لله كيف يهوي ساجداً لملذاته وشهواته، ويظل هذا الحياء ينمو إلى أن يصير إرادة نافذة وسلطة قادرة تشكل في مجملها (منهاة عن الإثم)، وبتكفير ما مضى والعصمة فيما بقى تبرأ الروح وإذا برئت الروح انتقلت العدوى إلى الجسد فبرء كما برء جاره من قبل، أو إن شئت قل: لما برئت الروح كرم الله الجسد الذي يحملها لأجلها وعافاه لطهرها، فلم يصبه داء ولم يمسسه ضر ومطردة للداء عن الجسد” (خالد أبو شادى، صفقات رابحة)

  • البراءة من الغفلة:عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين»(رواه ابو داود وصححه الألباني) فمن حافظ على الحد الأدنى من قيام الليل ولو ركعتين بعشر آيات من القرآن حصل على براءة من الغفلة ولم يدون فى سجل الغافلين. كما أن المداومة على قيام الليل تجعل الإنسان أكثر تذكراً للآخرة، ولذلك “كان صلى الله عليه وسلم لا يترك قيام الليل في صحة أو مرض فإن مرض أو كسل صلى قاعداً وكان صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله ليشهدوا هذا الخير فيمر على ابنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما ويطرق بابهما ليلاً ويتعجب من إيثارهما النوم على القيام قائلاً لهما: ألا تصليان؟وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب، ليصرخ هو بدوره في الناس يترجم صرخة الديك إلى لغتهم قائلاً: «أيها الناس جاءت الراجفة تتبعها الرادفة.. جاءكم الموت بما فيه»”(خالد أبو شادى، صفقات رابحة). “فمن معينات الطريق أن يضع المسلم نفسه في مناخ صالح يذكِّره بالموت، والآخرة دَوْماً، فليبدأ في تعويد نفسه على الطاعات فيلزمها بقراءة جزء من القرآن يومياً، والتزام الصلاة في المسجد، وخصوصاً صلاة الفجر والعشاء -واللتان تثقلان على المنافقين- وليحافظ على السنن المؤكدة.وليجاهد نفسه على صيام الاثنين والخميس، وليحافظ على السنن العملية مثل ذكر الله عند كل مناسبة: عند اللباس، وعند الطعام،… إلخ.وليعوّد نفسه على قيام الليل، فهو من أعظم القربات، وأجلّ الأعمال التي تقرب إلى الله وتجلي القلب، فالليل مدرسة تخرج منها الربانيون من هذه الأمة…وعليه أن يحاسب نفسه قبل النوم فيلومها على التقصير ويعزم في كل يوم على مواصلة السير بجد وعزم وتشمير..وليحافظ على زيارة القبور، والتفكر في أحوال الموتى، وليكثر من التصدق والإنفاق، وليصحب الصالحين الذين إذا نظر إليهم تذكر الآخرة..وقبل هذا كله.. عليه أن يتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء دعاء الذليل الفقير إلى مولاه ويلح في الدعاء والاستغاثة وطلب العون والمدد”(مجدى الهلالى، طوق النجاة).

  • شكر النعمة: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له: قد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.. قال: أفلا أكون عبدا شكورا»(أخرجه الخمسة إلا أبا داود(. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع قيام الليل، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا»( صحَّحه الألباني في صحيح سُنن أبي داود :1159).

  • جبر الكسر: “فقيام الليل يجبر كسر الفريضة ويستدرك التقصير فيها، وهو لا بد حاصل من تضييع خشوع أو سهو وتأخير وقت وغير ذلك مما لا يسلم منه أحد. قال صلى الله عليه وسلم : «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله بعد ذلك»” (رواه الترمذى وصححه الألباني)(خالد أبو شادى، صفقات رابحة).

تطبيقات عملية:

1-

2-

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. من تراث الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *