غزوة الخندق نموذج لكفاءة التعامل مع الصراع (2)
27 أبريل، 2016
إسلاميات, تربوى
1,020 زيارة
الافتتاحية: الآية241 من سورة البقرة
قال تعالي: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ»(البقرة: 214)
عن أسباب نزول الآية يقول الإمام المراغي رحمه الله: “روى أن الآية نزلت في غزوة أحد حين غلب المشركون المؤمنين، وشجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم، وكسروا رباعيته، وقيل نزلت في غزوة الأحزاب حين اجتمع المشركون مع أهل الكتاب وتحالفوا على الإيقاع بالمسلمين، وأصاب المؤمنين يومئذ جهد وشدة وجوع وضروب من الأذى، وأبدى المنافقون صفحة العداوة والبغضاء للمؤمنين الصادقين وقالوا كما قال الذين في قلوبهم مرض ﴿ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ وقال صادقو الإيمان على قلتهم وضعفهم وجوعهم وعريهم: ﴿هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً﴾”(تفسير المراغي).
وحول تفسيرها يقول رحمه الله: “هذا خطاب للذين هداهم الله إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف إلى نور الوفاق باتباعهم هدى الكتاب زمن التنزيل، وهم أهل الصدر الأول من المسلمين، وفيه العبرة لمن يأتي بعدهم ويظنون أن في انتسابهم إلى الإسلام الكفاية في دخول الجنة، جهلا منهم بسنة الله في أهل الهدى منذ أن خلقهم أن يتحملوا الشدائد والإيذاء في طريق الحقّ وهداية الخلق. والخلاصة: إنه قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا، أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون على الشدائد كما ثبتوا، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا رضوان الله من غير أن تفتنوا في سبيل الحق، فتصبروا على ألم الفتنة، وتؤذوا في الله، فتصبروا على الإيذاء كما هى سنة الله في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟ثم بين ما أصاب الأمم قبلهم من الشدائد فقال:﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ أي إن أولئك السابقين كانوا إذا أصابهم البؤس والضر ووقعوا في حال من الاضطراب والزلزلة من شدة الهول، وقد أحاط بهم أعداء الحق من كل جانب اعتقدوا أن النصر الذي وعد الله به من ينصره قد أبطأ فاستعجلوه بقولهم:﴿مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ فأجابهم الله بقوله: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ فهو سينصركم على عدوكم، ويكفيكم شرّ أهل البغي ويؤيد دعوتكم، ويجعل كلمتكم العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾، وقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ والمسلمون لم يصلوا في الشدة إلى مثل الحال التي نال فيها أولئك الرسل ما نالوا، فقد قتل بعض النبيين وأصابهم ضروب من الإيذاء حتى قيل إن منهم من نشر بالمنشار وهو حىّ، وأحرق بعض بالنار كما فعل أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين فيه بالنار ﴿وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾. فليتأمل المسلمون وليعتبروا بما خوطب به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم موضع التجلة والاحترام، وكيف عوتبوا هذا العتاب الشديد على ظنهم أنهم يدخلون الجنة وهم لم يقاسوا من البأساء والضرّاء واحتمال الشدائد في سبيل نصرة الدين، مثل ما قاسى الذين سبقوهم بالإيمان حتى استحقوا الجنة”(تفسير المراغي).
والابتلاء سنة الله في الدعوات، وبه يربي الله المؤمنين ويعدهم لتحمل الأمانة والمسئولية في قيادة الأمم قيادة ربانية بمنهج الله تعالي: يقول الشيهد سيد قطب رحمه الله: “هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته. وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم. وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه- من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله- إن سؤالهم: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة. ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟». وعند ما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة. عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله: «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء.الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعند ما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى «نَصْرُ اللَّهِ»، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله. ولا نصر إلا من عند الله. بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرد لله وحده، والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه. إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة، ويرفعها على ذواتها، ويصهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوة وحيوية، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها. وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع، وكما يقع في كل قضية حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أول الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين. على أنه- حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته. يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية. وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء. كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته. وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف. وهذا هو الطريق. هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل. هذا هو الطريق: إيمان وجهاد، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر. ثم يجيء النعيم.”(في ظلال القرآن، بتصرف).
دروس مستفادة من الآية الكريمة:
• الابتلاء سنة الله في الدعوات. قيل للشافعي أيمكن المؤمن أم يبتلي؟ قال: لن يمكن المؤمن حتي يبتلي.
• الصبر والثبات في المحن والشدائد من أسباب نزول النصر في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة.
• عندما يحيط الخطر بالمؤمنين ويزلزل الخوف قلوبهم يكون النصر أقرب ما يكون إليهم. …..أذكر دروساً أخري.
الإبداع والابتكار:
• حفر الخندق: كان اقتراح سيدنا سلمان الفارسي حفر الخندق اقتراحاً مبدعاً، فليس للعرب عهد بمثل هذه الأساليب الحربية، ولذلك كانت المفاجأة بالنسبة لهم كالصاعقة، وكان هذا الابداع بعد توفيق الله تعالي سبباً مباشراً في حماية المدينة من اجتياح الأحزاب لها.
• المستشفي الميداني: يقول الصلابي: “أنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الأحزاب, فقد ضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه خيمة في مسجده الشريف في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب, فأمر صلى الله عليه وسلم أن تكون رفيدة الأسلمية الأنصارية رئيسة ذلك المستشفى النبوي الحربي، وبذلك أصبحت أول ممرضة عسكرية في الإسلام , وجاء في السيرة النبوية لابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من به ضيعة من المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب. ويفهم من النص السابق أن من أصيب من المسلمين إن كان له أهل اعتنى به أهله، وإن لم يكن له أهل، جيء به إلى المسجد حيث ضربت خيمة فيه لمن كانت به ضيعة من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، ليس به ضيعة، ولكن لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل”(السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، بتصرف).
حسن توظيف الطاقات:
• تكليف حذيفة بن اليمان بمهمة الاستطلاع: وقد أثبتت الأحداث أنه يتصف بالصفات المناسبة لطبيعة المهمة؛ فقد تميز بتمام الطاعة، والانضباط الكامل، وحسن التصرف، وسرعة البديهة، وتوقد الذهن، وخفة الحركة، والثبات الانفعالي، والشجاعة، وقد تمكن بفضل الله أولا ودعاء رسول الله صلي الله عليه وسلم له ثانياً، ثم بفضل هذه الصفات أن يحقق مهمته بنجاح، وأن يستطلع أخبار الأعداء مباشرة من قلب معسكرهم. يقص علينا سيدنا حذيفة خبر هذه المهمة بقوله: “لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال: قم يا حذيفة فاتنا بخبر القوم. فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: اذهب فاتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ ، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يُصْلَيْ ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذعرهم عليّ ولو رميته لأصبته”(رواه مسلم).
• تكليف علي بن أبي طالب بمهمة المبارزة: وإقراره علي منازلة عمرو بن ود المعروف عند العرب بألف فارس، والذي طلب المبارزة من المسلمين فلم يجبه أحد حتي قال: “إني بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز”(سيرة ابن اسحاق). والحقيقة أن إقرار الرسول صلي الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب لتنفيذ المهمة التي انتدب نفسه لها وهي منازلة أحد أبرز فرسان العرب لم تكن للخروج من الموقف المحرج للقيادة الإسلامية وللجيش المسلم، ولم تكن تضحية بهذا الجندي الشجاع، ولكن لأن علياً رضي الله عنه كان مقاتلاً شديد المراس، رابط الجأش، جسور القلب، وكان بالإضافة إلي ذلك شاباً فتياً قوي الجسم مفتول العضلات؛ وقد ظهرت مقدرته الحربية في المبارزة تحديداً في غزوة بدر وأحد، وظهرت شجاعته في نومه في فراش الرسول صلي الله عليه وسلم في الهجرة والمشركون ببابه يريدون قتله، وفي فتح خيبر حمل علي رضي الله عنه باب حصن ناعم بين يديه يتترس به وهو الذي ينوء بحمله العصبة من الرجال الأشداء(راجع سيرة ابن اسحق). وفي كنز العمال عن ابن عباس قال: “سَمِعْتُ عمر يقول جاء عمرو بن عبد ود فجعل يجول بفرسه حتى جاوز الخندق إلى أن قال: … صلى الله عليه وسلم: “اخرج يا علي” فقال له عمرو من أنت يا ابن أخي؟ قال أنا علي فقال إن أباك كان نديماً لي لا أحب قتالك … إلى أن قال عمرو إني نذرت أن أقتل حمزة فسبقني إليه وحشي ثم إني نذرت أن أقتل محمداً قال علي: “فانزل فنزل فاختلفا في الضربة فضربه علي فقتله. وقد قيل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لعلي في مبارزة عمرو دعا الله وقال اللهم أعنه عليه بعد أن عممه وأعطاه سيفه ذا الفقار وكل ذلك بدون إسناد وذكروا أيضاً أن علياً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق اللهم إنك أخذت عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا علي فلا تدعني فرداً وأنت خير الوارثين”.
الاستفادة من طبيعة المكان الجغرافية:
المكان يقاتل مع أصحابه. هكذا ينظر العسكريون إلي أهمية اختيار الموقع المناسب للجيش. يقول محمد الصوياني: “فنّ القتال لا يعني المهارة باستخدام السلاح فقط، بل المهارة في استخدام وتسخير كل شىء يحيط بالمحارب. وقد تفنّن صلى الله عليه وسلم في تسخير تضاريس المدينة وطبيعتها في هذه الحرب القادمة، غير المتكافئة عددًا واستعدادًا. جهة الشمال مفتوحة لاحتمالات مخيفة فقرّر صلى الله عليه وسلم إغلاقها فبدأ حفر الخندق”(السيرة النبوية كما جاءت بها الأحاديث الصحيحة). وعن كيفية اختيار الموقع المناسب لحفرالخندق ومكان معسكر المسلمين ذكر الواقدي في المغازي: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعًا ينزله، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعًا خلف ظهره ويخندق من المذاد إلى ذباب”. وبذلك يكون ظهره محمياً بجبل سلع والخندق يفصل بينه وبين الأعداء. يقول الصلابي: “كان اختيار تلك المواقع موفقًا؛ لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها، أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبة أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة واقم من جهة الشرق, وحرة الوبرة من جهة الغرب، تقومان كحصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين، وكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبني قريظة عهد ألا يمالئوا عليه أحدا، ولا يناصروا عدوًا ضده. ويستفاد من بحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان ملائم لنزول الجند أهمية الموقع الذي ينزل فيه الجند، وأنه ينبغي أن يتوافر فيه شرط أساسي وهو الحماية التامة للجند؛ لأن ذلك له أثر واضح على سير المعركة ونتائجها”(السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث).
كفاءة إدارة المعركة:
• الدوريات: كان هدف الدوريات مراقبة حركة العدو وحراسة الخندق من محاولات الاقتحام ومحاولات الردم وحماية المسلمين في وقت راحتهم وإجهاض أي هجوم مفاجئ من قبل فرسان الأحزاب؛ وقد “قسم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مجموعات للحراسة ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق، وقام المسلمون بواجبهم في حراسة الخندق وحراسة نبيهم صلى الله عليه وسلم, واستطاعوا أن يصدوا كل هجوم حاول المشركون شنه، وكانوا على أهبة الاستعداد جنودًا وقيادة، حتى أنهم استمروا ذات يوم من السحر إلى جوف من الليل في اليوم الثاني، ويفوت المسلمون الصلوات الأربع، ويقضونها لعجزهم عن التوقف لحظة واحدة أثناء الاشتباك المباشر للقتال، واستطاع علي بن أبي طالب مع مجموعة من الصحابة أن يصدوا محاولة عكرمة ابن أبي جهل، بل تصدى علي لبطل قريش عمرو بن عبد ود وقتله”(الصلابي،السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث).
• المخابرات والاستطلاع: كان الرسول صلي الله عليه وسلم يرصد حركة الوفد اليهودي الذي خرج في سرية تامة ليؤلب القبائل علي حرب المسلمين، وكلف فريقاً من أصحابه بمهمة جمع المعلومات عن حركة اليهود منذ مغادرتهم خيبر إلي مكة وعندما تجمعت لديه معلومات كافية تؤكد استجابة قريش وغطفان وغيرهما وانعقاد الحلف بينهم علي حرب المسلمين جمع الرسول صلي الله عليه وسلم أصحابه وشاورهم فاستقر رأيهم علي حفر الخندق فشرعوا في تنفيذه يسابقون الزمن. يقول الصلابي: “بمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف الخطير الناجم عن مساعي اليهود الخبيثة. فأدلى سلمان الفارسي رضي الله عنه برأيه الذي يتضمن حفر خندق كبير لصد عدوان الأحزاب, فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك”(السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث). وبعد قدوم جيش الأحزاب ومحاصرته للمدينة كان الرسول صلي الله عليه وسلم حريصاً علي استطلاع أخباره كما عرضنا سابقاً وتكليف حذيفة رضي الله عنه بمهمة استطلاعية في قلب معسكر الأحزاب. وتكليف آخرين لاستطلاع موقف اليهود فتبين أنهم قد نقضوا عهدهم معه صلي الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يبين اهتمام القيادة بجمع المعلومات الصحيحة الموثقة والتعامل السريع المناسب معها.
• ترتيب الرماة: كانت مهمة الرماة في الخندق منع فرسان الأحزاب من اقتحام الخندق، وقد كانت محاولاتهم لا تهدأ. “قال محمد بن مسلمة كان ليلنا بالخندق نهارا وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا، وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا متقرقين، أو مجتمعين بين أيديهم وهم حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي في آخرين. فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعا في وجه واحد، مقابل قبة رسول الله صلي الله عليه وسلم. ورسول الله قائم بسلاحه على فرسه، فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله. وقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «عرق الله وجهه في النار» ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاؤوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم إلى النبي صلي الله عليه وسلم حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون، فلم تدخله خيولهم، وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله المخزومي وضرار بن الخطاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد، وقام سائرهم وراء الخندق. فدعا عمرو بن عبد إلى البراز – وكان قد بلغ تسعين سنة، وحرم الدهن حتى يثأر بمحمد وأصحابه – فأعطى رسول الله صلي الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه سيفه وعممه وقال: «اللهم أعنه عليهم» فخرج له وهو راجل وعمرو فارسا، فسخر به عمرو، ودنا منه علي، فلم يكن بأسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار”(منير محمد الغضبان، فقه السيرة).
• تقسيم العمل: كانت مهمة حفرالخندق من المهام الصعبة فحجم العمل المطلوب إنجازه ضخم، والوقت المتاح قصير، و التهديد كبير والأدوات المستخدمة بدائية، وزاد من صعوبة الأمر أن الغذاء غير متوفر للقوة العاملة في الحفر، بالإضافة إلي البرد الشديد وحالة الخوف والترقب، لقد كان الحفر المطلوب “يبدأ من طرف الحرة الشرقية إلى جبل بني عبيد من بني سلمة” ولإنجاز هذا العمل الضخم قبل وصول الجيش الغازي “فقد وكل صلى الله عليه وسلم لكل أناس جزءاً من المكان المتفق على حفره وفي ذلك تنشيط لهم ودافع لهم على المسابقة في إكمال ما يلزم كل طائفة علماً بأنه صلى الله عليه وسلم قد وضع يده معهم ليدفعهم ويرغبهم أكثر في ذلك”(إبراهيم بن محمد عمير المدخلي، مرويات غزوة الأحزاب) وقد جاء في حديث عمرو بن عوف المزني أن رسول صلى الله عليه وسلم “قطع لكل عشرة أربعين ذراعا”(أخرجه الطبراني في المعجم الكبير).
استثمار عناصر قوة المسلمين:
تميز الصف المسلم بمجموعة من الصفات استثمرتها القيادة أفضل استثمار لتحقيق النصر الذي وعد الله به المؤمنين، ومن هذه الصفات أنه صف مؤمن منضبط مجاهد مستعد للتضحية متحاب متكافل؛ ومن مظاهر إيمان هذا الصف أن محاصرته بالخطر المزلزل من كل جانب لم تزده إلا إيماناً بوعد الله وتسليماً لقضائه ﴿وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً﴾ (الأحزاب: 22). ومن مظاهر انضباط هذا الصف أنهم كانوا لا يتحركون حركة صغيرة ولا كبيرة ولو لقضاء حوائجهم إلا بعد استئذان القيادة وموافقتها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النور:62). ومن مظاهر جهادهم واستعدادهم للتضحية موقف سعد بن معاذ وسعد بن عبادة كممثلين للأوس والخزرج في رفض مصالحة غطفان علي ثلث ثمار المدينة مقابل انسحابهم من جيش الإحزاب، وهذا قمة التحدي في ظل الظروف الضاغطة ولا يقع ذلك إلا من مجاهد مستعد للتضحية. وأما التحاب والتكافل فأدلته كثيرة، ففي ظل الحصار وشح الطعام كان الصحابة لا يستأثر أحدهم بطعام بل كان يدعو بعض إخوانه إلي طعامه فكانوا يقتسمون الجوع والشبع كما يقتسمون التعب والتعرض للخطر. وقد مدح الرسول صلي الله عليه وسلم الأشعريين قبل ذلك بقوله: “رحم الله الأشعريين كانوا إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسوية فهم مني وأنا منهم.” علي مثل هذا الصف المؤمن المجاهد المنضبط المستعد للتضحية المتحاب المتكافل يتنزل النصر فاعتبروا يا أولي الألباب.
تطبيقات عملية:
1. يفوم القائد الثورى مع الأسرة بمراجعة دور كل فرد وكذلك دور الأسرة مجتمعة في الحراك والتوعية
2. تختار الأسرة غزوة أخرى من السيرة وتفوم الأسرة ببيان كيف أدارها الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه المؤمنون