الخميس , أكتوبر 9 2025
الرئيسية / إسلاميات / الدرس الثالث : غزوة الخندق نموذج لكفاءة التعامل مع الصراع (1)

الدرس الثالث : غزوة الخندق نموذج لكفاءة التعامل مع الصراع (1)

الافتتاحية: الآيات 21- 27 من سورة الأحزاب

قال تعالي: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا(الأحزاب:21-27).

تتناول الآيات جانباً من أحداث غزوة الأحزاب وتبين حال المؤمنين خلالها بين الشدة واليقين، وبين الخوف والرجاء وبين الزلزلة والتصديق بوعد الله الذي سبق في سورة البقرة. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “َذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَوُا الْأَحْزَابَ يَعْنِي جُنُودَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، قَالُوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْآيَةَ الَّتِي وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى”أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ” (البقرة: 214) ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ آيَةَ «الْبَقَرَةِ» الْمَذْكُورَةَ مُبَيِّنَةٌ لِآيَةِ «الْأَحْزَابِ» هَذِهِ، ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا، صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: “وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ”. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ رَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَنَّهُ كَفَى الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَهُمُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابُهُ. وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي رَدَّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَفَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ” فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا” (الأحزاب: 9) أَيْ: وَبِسَبَبِ تِلْكَ الرِّيحِ وَتِلْكَ الْجُنُود”(أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).

والتربية القرآنية تهدف إلي تكوين الشخصية المتوازنة التي لا يمنعها الخوف والإحساس بالخطر من مواصلة الطريق، ولا تفقد الأمل مهما اشتدت بها المحنة. يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة، في مواجهة الهول، وفي لقاء الخطر. الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين:«وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً». لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا، كما قال عنهم أصدق القائلين: «هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً». لقد كانوا ناسا من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية وبشارة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- لهم، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق.. على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم. ولكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر. ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ». وها هم أولاء يزلزلون. فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ». «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً».«هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق. وعدنا عليه النصر. فلا بد أن يجيء النصر: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ». صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعده «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً». لقد كانوا ناسا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ولا أن يخرجوا من اطار هذا الجنس ويفقدوا خصائصه ومميزاته. فلهذا خلقهم الله. خلقهم ليبقوا بشرا، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرا. كانوا ناسا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة. ولكنهم كانوا- مع هذا- مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير.

وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور. علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا، لم يتخلوا عن طبيعة البشر، بما فيها من قوة وضعف. وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء. وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق. فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا، ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية، ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا. هنالك العروة الوثقى. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر. فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق. وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا“(في ظلال القرآن بتصرف).

دروس مستفادة من الآيات:

  • الرسول صلي الله عليه وسلم هو القدوة الحسنة للمسلمين وهو النموذج الكامل للبشرية في كل أقواله وأفعاله.

  • المؤمنون الصادقون لا تفقدهم الأحداث المزلزلة والمحن الشديدة ثقتهم في نصر الله للمؤمنين، ويقينهم أن العاقبة للمتقين.

  • من صفات الرجال الصادقين في القرآن الثبات علي المبدأ حتي الممات مهما كانت الظروف الضاغطة والأحداث الجسيمة.

  • …………………………………………………أذكر دروساً أخري.

لقد كانت استجابة الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وطريقة تعاملهم مع التهديد الخطير الذي استهدف وجود الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة نموذجاً  لكفاءة التعامل مع الصراع علي مستوي القيادة  وكذلك علي مستوى الأفراد؛ فقد تحزبت الأحزاب من قريش وغطفان ومن حالفهم علي الدولة الإسلامية الناشئة لإسقاطها، واستئصال شأفة المسلمين نهائياً، والتخلص من العقيدة الجديدة التي اعتبروها تهديداً لموروثهم الديني الذي ارتبطت به مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية؛. وفيما يلي بعض جوانب التعامل الناجح مع هذا التهديد الوجودي بإزالة الدولة الإسلامية ومحو العقيدة الإسلامية والقضاء علي المسلمين قضاء تاماً:

تقوية الجبهة الدخلية: وذلك من خلال وسائل عملية وإجراءات كثيرة منها ما يلي:

  • إذكاء الإيمان ورفع الروح المعنوية وبث الأمل: حرص الرسول صلي الله عليه وسلم علي رفع الجانب الإيماني والروح المعنوية وبث الأمل.عن ابن عباس قال: احتفر رسول الله صلي الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع. ثم مشوا إلى الخندق فقال: اذهبوا بنا إلى سلمان وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال النبي صلي الله عليه وسلم لأصحابه: دعوني فأكون أول من ضربها فقال: بسم الله فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: الله أكبر قصور الروم ورب الكعبة ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة. فقال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة فقال عندها المنافقون: نحن بخندق وهو يعدنا قصور فارس والروم” (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) وحرص صلي الله عليه وسلم علي مشاركة أصحابه العمل وتحمل الجوع والبرد وعلي تخفيف المعاناة عنهم بمشاركتهم في الإنشاد بالمعاني الإيمانية التي تربط المؤمنين بربهم؛ فعن أنس رضي الله عنه أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون يوم الخندق: نحن الذين بايعوا محمدًا **على الإسلام ما بقينا أبدًا، أو قال على الجهاد والنبي يقول: اللهم إن الخير خير الآخرة … فاغفر للأنصار والمهاجرة (رواه مسلم). وقد روي البخاري رحمه الله في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب: ثم يمد صوته بآخرها:

اللهم لولا الله ما اهتدينــا

******

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينــــــــا

******

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأعادي قد بغوا علينا

******

وإن أرادوا فتنة أبينــا

  • نقل النساء والذراري إلي حصون مؤمنة: يقول الصلابي: “لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة, حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب, فلا يشغل تفكيره أمر من أمور الحياة, يسخر كل إمكاناته وقدراته العقلية والجسدية للإبداع في القتال، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال؛ وبذلك تنزل الكارثة بالجميع”(السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث).

  • الحذر من غدر يهود بني قريظة وإخفاء خبر نقضهم للعهد: كان النبي صلي الله عليه وسلم يعلم أهمية تماسك الجبهة الداخلية وعدم انحياز اليهود إلي العدو الغازي حتي لا يصبحوا خنجراً في ظهره، وكان المسلمون يخافون من غدر اليهود خاصة الأوس والخزرج الذين عاشوا معهم وجربوا غدرهم. وقد صدق حدسهم ووقع ما كانوا يخشونه؛ فقد نجح زعيم يهود بني النضير في إقناع كعب بن أسد زعيم بني قريظة بنقض العهد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعاونة الأحزاب في حربه .وبدأت هذه الأخبار تسري بين المسلمين ولذلك انتدب صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام ليستطلع الخبر من بعيد، فلما رجع قال: يا رسول الله: “رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم” (المغازي للواقدي). ثم أرسل صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير رضي الله عنهم للتحقق من الخبر وأوصاهم إذا تأكدوا من صحة الخبر بعدم إذاعته وإخبار الرسول بالتورية والتلميح فقال لهم: “انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا  أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس” (السيرة النبوية لابن كثير). “فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم قد نقضوا العهد, فرجعوا فسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة”(البداية والنهاية لابن كثير), فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن يهود قريظة  قد نقضوا العهد، وقد حرص صلي الله عليه وسلم علي عدم إشاعة الخبر حتي لا يؤثر ذلك علي الروح المعنوية للمسلمين.

  • تقدير القيادة لحاجات الجنود وظروفهم: فقد كان صلي الله عليه وسلم يقدر ظروف المسلمين والحالة التي تمر بهم، ويتلطف بهم ويتفقد أحوالهم ويأذن لهم في قضاء بعض حوائجهم الضرورية “وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على قدر كبير من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم, فكانوا يستأذنونه في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثم يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، رغبة في الخير واحتسابًا للأجر، فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(النور: 62)”(السيرة النبوية كما جاءت بها الأحاديث الصحيحة).

  • مشاركة القيادة للجنود في العمل: كان صلي الله عليه وسلم يشارك أصحابه مشقة العمل وعضة الجوع ولفحة البرد وإذا ربط أحدهم علي بطنه حجراً من شدة الجوع ربط صلي الله عليه وسلم علي بطنه حجرين. يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: “لا تحسبنّ عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعميق الخندق وقذف أتربته من قبيل التمثيل الذي يحسنه بعض الزعماء في عصرنا، كلا، كلا .إنّ الرجولة الكادحة الجادّة في أنبل صورها كانت تقتبس من مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة. يقول البراء: «لقد وارى عني التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر» (رواه البخاري). أجل إنه استغرق في العمل مع أصحابه؛ فالرجولة الصادقة لا تعرف التمثيل”(فقه السيرة).

  • مواجهة الأراجيف وحملات التشكيك والتثبيط: في أوقات الشدة يظهر النفاق ويعبر المنافقون عن مكنونات صدورهم بلا خوف وهذا ما حدث في غزوة الأحزاب، وقد واجهه الرسول صلي الله عليه وسلم بعدم الإذن للمنافقين وواجهه المسلمون بعدم الاستماع لهم. يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: “أما الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب فقد تندّروا بأحاديث الفتح، وظنوها أماني المغرورين، وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا. وفيهم قال الله تعالى”وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً “(الأحزاب: 12) (فقه السيرة). ويقول الصلابي: ” أما المنافقون فقد انسحبوا من الجيش، وزاد خوفهم حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وطلب البعض الآخر الإذن لهم بالرجوع إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، فقد كان موقفهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، قال تعالي: وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (الأحزاب: 13 – 20 (إن الآيات السابقة أشارت إلى النفاق وما تولد عنه من القلق في النفوس, والجبن في القلوب, وانعدام الثقة بالله عند تعاظم الخطوب والجرأة على الله تعالى بدل اللجوء إليه عند الامتحان، ولا يقف الأمر عند الاعتقاد بل يتبعه العمل المخذل المرجف، فهم يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم للانصراف عن ميدان العمل، والقتال بحجج واهية؛ زاعمين أن بيوتهم مكشوفة للأعداء، وإنما يقصدون الفرار من الموت لضعف معتقدهم وللخوف المسيطر عليهم، بل ويحثون الآخرين على ترك موقعهم والرجوع إلى بيوتهم، ولم يراعوا عقد الإيمان وعهود الإسلام”(السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، بتصرف).

تفتتيت معسكر الأعداء:

  • تكليف نعيم بن مسعود بمهمة تخذيل الأحزاب: وذلك لأنه أسلم أثناء حصار الأحزاب للمسلمين، ولم ينتشر خبر إسلامه، وكانت له علاقات طيبة تجعله موضع ثقة عند كل من اليهود وقبائل العرب من قريش وغطفان وهذه مؤهلات تضمن له النجاح في مهمته بالإضافة إلي سماته الشخصية من الدهاء وسعة الحيلة. قال ابن إسحاق: “ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنى قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله: “إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة” فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية؛ فقال يا بني قريظة قد عرفتم وُدِّي إياكم وخاصةَ ما بيني وبينكم قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم إن قريشاً وغطفانَ ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره. وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره. فليسوا كأنتم. فإن رأوا نهزة أصابوها؛ وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه. فقالوا له لقد أشرت بالرأي.قال: ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وأنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقاً أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عني، فقالوا نفعل قال تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني، فقالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال فاكتموا عني قالوا نفعل فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم”(سيرة ابن اسحاق).

  • التفكيرفي مصالحة غطفان علي ثلث ثمارالمدينة: لفل حدهم وكسر شوكتهم وردهم عن المدينة، وقد جاء الحارث الغطفاني يفاوض الرسول صلي الله عليه وسلم علي نصف ثمار المدينة فصالحه علي الثلث شريطة أن يوافق زعيما الأوس والخزرج سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فلما رفضا ذلك لم ينعقد العقد “جاء الحارث الغطفاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأناها عليك خيلًا ورجالًا، فقال  صلى الله عليه وسلم: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ يشاورهما فقال: إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث يسألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوا إليه عامكم هذا حتى تنظروا في أمركم بعد. قالوا: يا رسول الله أوحي من السماء؟ فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك؟ فرأينا تبع لهواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منّا تمرة إلا بِشِرى أو قرى. وما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام. فرجع إليه الحارث فأخبره”(سيرة ابن اسحاق) وهذه المحاولة وان لم تتم لكن العبرة بدوافعها وتفكير القيادة في حال الجنود والرعية ومدي قدرتهم علي التحمل والتماس المخارج لهم برضاهم، فلما تأكدت القيادة أن الجنود مستعدون للمواجهة وليسوا في حاجة إلي تقديم أي تنازلات ولو مرحلية بدافع الإبقاء عليهم أمضت لهم خيارهم، وهذه كفاءة عالية في إدارة الصراع كما أنه خلق رفيع للقيادة لا تحمل الرعية فوق طاقتها وتشفق عليها وفي نفس الوقت لا تسوسها قهراً ولا تسير بها في طريق لاترتضيه.

تطبيقات عملية:

  1. حدد أهم الاستفادات العملية علي المستوى الفردى من هذا الدرس – ناقش ذلك مع إخوانك

  2. للقائد الثورى:لابد أن يكون لك مبادراتك مع إخوانك…………فكر كيف تحدث لهم نقلة عملية مع هذا الدرس

شاهد أيضاً

وفي الصوم زاد.. من تراث الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *