تتعرض سيناء لأكبر عملية سطو عالمي لم تشهده شبه الجزيرة من قبل، فالإستراتيجيات الغربية التي كانت قيد الكتمان أصبحت الآن واضحة بعد أن اقتربنا من الخطوة الأخيرة، وهي طرد السكان بزعم محاربة الإرهاب، لتسليمها خالية للملاك الجدد الصهاينة في الشمال، واليونانيين والروس في الجنوب.
تعمل الإستراتيجيات الغربية على إزاحة الحكم المصري من سيناء، وطرده إلى الضفة الغربية لقناة السويس، وهذه الإستراتيجيات نجحت بالفعل في المثلث الجنوبي، واقتربت من الإعلان النهائي عن إزاحة مصر، وتحويل المثلث الجنوبي الذي يبدأ من أسفل خط عرض 29 إلى محمية أوربية، ونزع السيادة المصرية عنها.
الأوربيون والروس يبقون على السيطرة المصرية صوريا على جنوب سيناء لحين إتمام الخطط المتعلقة بالجزء الشمالي الذي يتم تهيئته بلا سكان، للبيع للمستثمرين الأجانب كخطوة مرحلية في إطار مشروع هرتزل الذي يتم تنفيذه الآن.
تناولت في المقال السابق تفاصيل مشروع هرتزل الذي جمده الإنجليز عام 1903، واقتراب الانتهاء من مراحله الأخيرة، والتهيئة لتسليم سيناء للصهاينة، وفي هذا المقال أتناول المكر الغربي في جنوب سيناء، وكيف استطاعوا تحويل المثلث الجنوبي إلى محمية أوربية، ليس للدولة المصرية من سيادة عليها إلا كحارس لتأمينها، وحماية المحتلين لها في أغرب عملية احتلال بلا حرب.
الاحتلال بقرارات الحكومة المصرية
بعد خروج الإسرائيليين من سيناء في عام 1982 لم يكن بمنطقة الجنوب سوى دير سانت كاترين، وبه مجموعة من الرهبان اليونانيين، وهذا الدير بني بأمر الإمبراطورة هيلين، أم الإمبراطور الروماني قسطنطين، ثم دفنت فيه رفات القديسة كاترين التي كانت تعيش في الإسكندرية، ولها مكانة في ذلك الوقت.
ويرتبط الدير مذهبيا بالكنيسة الروسية، وهذا هو سبب تدفق السياحة الروسية على جنوب سيناء، فهي سياحة دينية في الأساس، وكما هو معلوم فإن الكنيستين الروسية واليونانية ورثتا زعامة الروم الأرثوذكس بعد سقوط القسطنطينية، وكلاهما يولي سانت كاترين رعاية خاصة.
تاريخيا.. تعرض الدير لاعتداءات كثيرة من البدو ومن القراصنة الأحباش، لكن منذ دخول الإسلام مصر توقفت هذه الاعتداءات، وأخذ الرهبان الأمان من الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، ولم يتعرضوا لأي عدوان، وهم يحتفظون بوثيقة عهد يقولون إنها من النبي صلى الله عليه وسلم، تطالب المسلمين بتأمينهم.
ولكن بعد الانسحاب الإسرائيلي، بدأت الماكينة الصليبية والصهيونية تعمل، فكان المطلوب هو منع الدولة المصرية والمصريين من القيام بأي عمل في جنوب سيناء، ووقف البناء أو الاقتراب بأي أعمال على الأرض في مجمل المنطقة، لكن وبعد تخطيط محكم، ومكر صهيوني من خلال عمليات الاختراق، صدر قرار من مجلس الوزراء المصري عام 1988، باعتبار معظم المثلث الجنوبي- وليس منطقة الدير فقط- محمية طبيعية بمساحة قدرها حوالي 4250 كم2، ونظرا لقيام بعض البدو بحفر آبار للشرب والرعي، قام اللوبي الموالي لإسرائيل داخل الحكم المصري بتجديد القرار مرة أخرى عام 1996، وتفعيل العمل بالمحمية، فتم ردم الآبار وتحرير القضايا للمخالفين.
ولمزيد من الحماية تدخلت اليونسكو وقررت اعتبار معظم المثلث الجنوبي منطقة تراث ثقافي عالمي؛ لتفرض مظلة مزدوجة لمنع أي جهة من الدخول، ليخلو الطريق أمام رهبان الدير ليتوسعوا ويزدادوا طمعا في التهام المزيد، ولم يكتفوا بحدود المحمية، فامتد نفوذهم إلى كامل المثلث الجنوبي.
دولة دير سانت كاترين
بدأ الدير يتوسع ويسيطر على الجبال المحيطة وما بينها من وديان، وهي جبل سانت كاترين وهو أعلى قمة في مصر، ويبلغ ارتفاعه حوالي 2641 مترا فوق سطح البحر، وجبل موسى وارتفاع قمته حوالي 2285 مترا، وجبل أحمر ويبلغ ارتفاع قمته حوالي 2036 مترا، وجبل قصر عباس وارتفاع قمته حوالي 2341 مترا.
وبتواطؤ أجهزة الدولة وبأوامر مباشرة من نظام مبارك، وبالرشا احتل الرهبان مساحات شاسعة، وأدخلوا الطوب ومواد البناء إلى المحمية، وشيدوا أسوارا هائلة بالكيلومترات، غير مبالين باعتراضات مسؤولي المحافظة، الذين سعى الدير لشرائهم بالمال، وتوظيف أبنائهم في شرم الشيخ وبعض المشروعات السياحية، ومن اعترض ولم ينجحوا في شرائه كان جزاؤه الإبعاد بقرارات فوقية.
ويبدو من خلال التوسع الاستيطاني أن هناك غرفة عمليات دولية وخبراء عسكريين يديرون عملية الاحتلال؛ لأن ما تم يفوق قدرة رهبان الدير، فتم السيطرة على معظم النقاط الإستراتيجية التي لا تتحكم في منطقة المحمية فقط؛ وإنما في كل منطقة الجنوب، فقد تم السيطرة على منطقة الطرفة التي تتحكم في منطقة فيران المؤدية إلى الدير، وبه الطريق المؤدي إلى شرم الشيخ في مساحة لا تقل عن 3 آلاف فدان، ومدخل سهل الراحة عند جبل النبي صالح ومنطقتي البستان والرصريص، اللتين تتحكمان في منطقة سانت كاترين بأكملها، وأيضا استولوا على وادي الأربعين، والذي يعد المدخل الرئيسي الجانبي لسانت كاترين.
وبدأ الاتحاد الأوروبي يدخل على الخط، ويساهم في التأسيس لهذه الدولة اليونانية على الأرض المصرية، وأصبح الدير قبلة الزعماء الأوروبيين الذين يتدفقون عليه بشكل دوري، وقام الاتحاد الأوروبي بتمويل مد أنبوب بطول220 كم لتوصيل مياه النيل إلى سانت كاترين بتكلفة 18 مليون يورو، من رأس سدر إلى منطقة سهل الراحة.
الغريب أن عملية الاحتلال لجنوب سيناء لم تتم بقوات عسكرية ولا حتى بكثافة سكانية، وإنما ببناء الأسوار العالية ورفع العلم اليوناني على كل منطقة يتم ضمها.
الدولة تفرط في جنوب سيناء
ما حدث في جنوب سيناء كان يتم بدون أي مقاومة، لدرجة أن الدكتور مصطفى الفقي خرج عن صمته ووصف المنطقة بأنها “مستعمرة أجنبية”، إلا أنه وبدلا من أن يطالب الدولة بالقيام بدورها وفرض سيادتها على جنوب سيناء، دعا الكنيسة المصرية إلى السيطرة على الدير.
لم يحدث في أي مكان في العالم أن دولة تقدم جزءا من ترابها الوطني طواعية كهدية للاحتلال، فمن العجيب أن السيطرة تمت في وضح النهار، والزحف الاستيطاني تم بالتواطؤ الرسمي.
وعندما قام اللواء عبد العال عبد الرحمن صقر، رئيس مجلس مدينة سانت كاترين، بالشهادة ضد الدير ومطالبته بنزع الأراضي من الدير، وفرض سلطة الدولة على أراضيها، تمت إقالته من منصبه.
وجاء قرار الإقالة بعد حضوره كشاهد على احتلال اليونانيين لجنوب سيناء في القضية التي أقامها اللواء أحمد رجائي عطية، قائد الصاعقة المصرية ومؤسس الوحدة 777، أمام مجلس الدولة، ضد كل من: رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، وزير السياحة، وزير البيئة، رئيس المجلس الأعلى للآثار، رئيس الأمن القومي، محافظ جنوب سيناء، مطران دير سانت كاترين بمحافظة جنوب سيناء، وزير الداخلية بصفته، وزير الثقافة بصفته.
وقد شهدت مجموعة من اللواءات مع اللواء رجائي عطية، منهم محافظ جنوب سيناء الأسبق اللواء محمد عبد الفضيل محمد شوشة في القضية ضد الدير، أي أن المسؤولين التنفيذيين في الدولة لم يستطيعوا التصدي لعملية إزاحة الدولة المصرية من جنوب سيناء، وعجزوا عن التصدي لعملية الاستيطان، وهذا يؤكد أن خلفية معادية أكبر مما نتوقع وأخطر مما نتخيل، تخترق أحشاء الدولة المصرية وتنفذ ما تريد.
تأشيرة الدخول للمحمية الأوروبية
لقد تحول المثلث الجنوبي أسفل خط عرض 29 إلى محمية أوربية، ولم تقدم الحكومة المصرية عمدا على فرض سيادتها واستعادتها، وتم تنفيذ ما يريده رهبان الدير من الإبقاء على جنوب سيناء منتجعا سياحيا لصالح الاستثمارات الأجنبية المرتبطة في معظمها باليونانيين والروس، ومزارات دينية يجني الدير الرسوم منها وليس الدولة؛ فالدور المصري فيها مجرد التأمين والحراسة، وتم فرض جملة من الإجراءات الأمنية التي تؤكد خروج هذه المحمية الأوروبية من سلطة مصر، فالموافقة الأمنية المسبقة للرحلات القادمة من مصر أصبحت شرطا لدخول المثلث الجنوبي، فمنظمو الرحلات يرسلون للجهات الأمنية بطاقات الرقم القومي للمصريين قبل الزيارة بأيام، أي أصعب من تأشيرة السفر خارج مصر، بينما الأجانب والإسرائيليون يدخلون المنطقة بلا تأشيرة.
لم يبق في جنوب سيناء إلا الخطوة الأخيرة، وهي تعيين منتدب يوناني أو روسي بحماية أممية لإدارة جنوب سيناء، والإزاحة الكاملة للدولة المصرية، ولكن هذا القرار ينتظر اكتمال إخلاء شمال سيناء الذي يعد له الآن بزعم مواجهة الإرهاب، ثم بيع شرق القناة للأجانب تحت شعار الاستثمار، في إطار ما يسمى محور قناة السويس، وعندها سيكون الإعلان الرسمي عن الخروج الكبير للدولة المصرية إلى ما وراء القناة.