السبت , أكتوبر 11 2025
الرئيسية / مقالات / عم شحاتة هدهد بقلم : عامر شماخ
عامر شماخ

عم شحاتة هدهد بقلم : عامر شماخ

رأيته لأول مرة في منتصف شهر يوليو من عام 1987، في المركز العام بشارع سوق التوفيقية، قسيمًا وسيمًا، ذا أناقة ووقار، يجلس على طاولة مرتفعة ومن خلفه شعار مضىء يحمل المصحف والسيفين، فما من داخل إلا ويستئذنه في الدخول، أما هو فكان نعم الآذن والمستقبل.
وبعد أن استقر بنا الحال للعمل بجواره، صرنا صديقين؛ كحال كل من تعرف إلى (عم شحاتة)، الذى كان أبًا لمئات بل آلاف الإخوان، الذين عوّضوه حرمانه من أبوة الدم، وما أجمل نداءه حين كان ينادى أحدنا بحنان بالغ وبصوت خفيض: يا فلان –بالاسم مجردًا- أو: تعال يا ابنى، بطريقة هى نفس طريقة أب الصلب، فإذا ما غضب على أحدنا ناداه بـ (يا أخ فلان) كأنه يضع الحواجز، وهذا أقصى ما كان يفعله ساعة غضبه –رحمه الله.
قضيت معه ما قضيت من سنوات في هذا المكان، ثم لما غادرته إلى أماكن أخرى، وكنت أتردد عليه بين الفينة والأخرى، ورغم تقدمه في السن –ما وجدت تغييرًا واحدًا طرأ عليه، في هيئته أو في أناقته أو في خلقه العالى – اللهم إلا أنه كان يزداد جمالا في الشكل وعذوبة في الصوت، وقد تحقق فيه المثل السائر: (من عاش تقيًا مات قويًا)، فكنت أداعبه: الناس تكبر فتترهل وتمرض، وأنت تكبر فتزداد حلاوة ونضارة، فيضحك كاشفًا عن قلب نقى ولسان زكى: وبعدين فيك يا فلان!! ادع للحاجة –يقصد زوجته. رحمهما الله.
سألته يومًا: فوجئت أنك عنيد يا عم شحاتة، ولا تتنازل عن رأى ارتأيته، رغم ما بك من حنان ورقة؟!، قال: هل نسيت أنى سائق قطار؟، وماذا يعنى ذلك؟!، سائق القطار لا يعرف الرجوع للخلف، وهل نسيت أنى (تربية إخوان) أتمثل دائمًا الآية الكريمة: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، وهذه وتلك يحتمان علىّ المضى قدمًا فيما اعتقدت صحته مهما كلفنى من تضحيات. قلت: نعم صدقت.
اعتاد –رحمه الله- أن يفطّر إخوانه في المكتب وإخوان منطقته (الزاوية الحمراء) يومًا من كل رمضان فكنت ترى سطح بيته عاجًّا بالإخوان في هذا اليوم وعلى رأسهم المرشد، وهو سعيد بخدمتهم وتلبية طلباتهم، وكان إفطاره –رغم حالته المادية البسيطة- كأنه إفطار أكابر. قلت له مرة عقب أحد هذه الإفطارات: لأول مرة أرى (منوفى!!) يقدم لأضيافه حمامًا محشيًا؟ قال: يا بنى قلت لك مائة مرة إن انتمائى الأول والأخير للإخوان، وقد أوصيت أن أدفن معهم، كما كررت عليك من قبل أن إخوانك هم أكرم الناس وأطولهم يدًا.
ولد (عم شحاتة) في 13 من فبراير عام 1924 بمركز قويسنا بمحافظة المنوفية، وانتفل للعمل بالقاهرة مع شقيق له عندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، ثم عمل بالسكة الحديد مساعد سائق قطار، ثم سائق قطار.
تعرف إلى الإخوان في حوالى عام 1944، في منطقة دير الملاك بالقاهرة التى كان بها شعبة للجماعة تمارس فيها الألعاب الرياضية والأنشطة التى تستهوى الشباب؛ ليظل من يومها وحتى موته محافظًا على العهد بارًا بقسمه، مصطحبًا مرشدى الجماعة السبعة.
اعتقل –لأول مرة- عام 1954، وحكم عليه بالسجن عشر سنين، قضاها متنقلا بين سجون المحروسة: القلعة، الحربى، مصر، قنا، أسيوط، بنى سويف، طره، القناطر، وأخيرًا الواحات. وفى سجن القلعة تعرض لتعذيب شديد؛ حيث ضُرب بالشوم، وحُبس في زنزانة انفرادية مملوءة بالمياه بملابسه الداخلية، وذلك في شهر ديسمبر المعروف ببرده الشديد.
فى فترة سابقة أجرى معه موقع (إخوان ويكى) حوارًا مطولا حول ظروف سجنه واعتقاله منذ أن عرف السجن والاعتقال فقال: سئلت يومًا عن الأيام البيضاء والسوداء في السجن فقلت: (إن الأيام كلها بيضاء بصحبة الإخوان).
كان (عم شحاتة) من أوائل الرافضين لتأييد العبد الخاسر،  فكان جزاؤه استمرار الحبس والتعذيب،  فمن أيدوا نجوا من سياط الجلاد لكنهم لم ينجوا من الفتنة والضياع، أما هو وعدد من إخوانه في سجن بنى سويف فقد أرهقوا  جلاديهم حتى يئسوا منهم فتركوهم بلا تعذيب،  لكن نقلوهم لعنابر الجنائيين طمعًا في إذلالهم واعتداء الجنائيين عليهم، لكن خيب الله ظنهم بعدما صار الجنائيون خدمًا لهم رهن توجيهاتهم.
خرج (عم شحاتة) من السجن بعد انتهاء محكوميته عام 1964، لكن لم يمض على ذلك شهران حتى أعيد اعتقاله مرة أخرى متهمًا في إحدى قضايا عام 1965، وقد رأى هذه المرة من التعذيب والبطش في السجن الحربى ما لم يره من قبل، يقول: (كان التعذيب  ليلا ونهارًا، بكرة وعشيًا، كنا نخرج من موت إلى موت، وقد حرمت علينا الزيارات والاتصال بأهالينا في الخارج)، ولم يتراجع المجرموزرمون عن إجرامهم هذا إلا بعد سنتين وتحديدًا يوم الهزيمة الكبرى في 5 يونيو من عام 1967.
قضى (عم شحاتة) ست سنوات في هذا الجحيم ليخرج عام 1971 مرفوع الهامة، عزيز النفس، مفتخرًا بدينه وانتمائه؛ ليعود إلى عمله الذى فصل منه؛ وليقود قطار الديزل عوضًا عن قطار البخار الذى قاده آخر مرة قبل يوم من اعتقاله

 

شاهد أيضاً

نظرات في الإسراء والمعراج.. للإمام الشهيد حسن البنا

نحمد الله تبارك وتعالى، ونُصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *